مقالات وآراء

شوقي أنا للبلد بي حالا والشوق لي تراب أهلي (5)

أحلام إسماعيل حسن

بدأ القطار يتحرك من عطبرة متجهاً إلى بربر، في تلك اللحظة أحسستُ بالغربة والاغتراب بعد الألفة التي نشأت بيني وبين عطبرة وأهلها، لدرجة أنني تمنيتُ أن يستمر عطل القطار بها لوقت أطول. شعرتُ بالنعاس يسري في دواخلي حتى تملكني تماماً، فأسلمتُ نفسي له ونمتُ نوماً عميقاً لم أستيقظ منه إلا مع نسائم الفجر وإشراقات شمس يوم جديد تملأ سماء هذه المدينة، وعندما نظرتُ إلى الأفق خُيل لي أنَّ هذه المدينة ترمز للسلام، وأنَّ هذه الحمائم تحلق فوقنا لتعلن فرحتها بوصولنا إليها.

عندما توغَّل القطار شاقاً أطراف المدينة رأيتُ الباعة يسابقونه ليصلوا المحطة في وقت يسمح لهم بعرض ما يحملونه من تجارة يسترزقون منها، وبدأ السوق يفتح أبوابه، وبدأت الحياة تدب فيه رويداً رويدا. شعرت أنَّ هناك شيئاً قوياً يشدني إلى بربر، يجذبني إليها، يدعوني لأن أقبل ترابها، أن أتمسَّح بجدران منازلها، أن أشم أريج زرعها، أن أتمرغ على أرضها، أن أشرب من مياهها. هذه المدينة هي البقعة التي انحدرتْ منها أمي فتحية، وهل هناك رباط أقوى من رباط الأم؟ كما حملتني أمي في بطنها تراني اليوم أحمل الأرض التي انحدرت منها في دواخلي.

توقَّف القطار الآن في المحطة، نزلتُ منه واتجهتُ إلى إحدى النسوة اللاتي يسترزقن من عمل الشاي، كانت امرأة صبوحة، ملامحها جميلة، كانت ترتسم شلوخ على خديها زادتها بهاء، كانت أدوات عمل الشاي من كبابي وكفتيرة وكانون وحلة لبن في غاية النظافة، وكانت رائحة اللقيمات تجذب ركاب القطار نحو المكان، جلسنا حول هذه المرأة وطلبنا الشاي أب لبن المقنن واللقيمات، ودار حوار بيني وبين المرأة التي كانت تجيب عليَّ وهي تواصل عملها، فأخبرتني أنَّها من بربر، وحكتْ لنا الكثير عن المدينة وأهلها وتاريخها، وعن سيرتها الذاتية، حيث إنَّ زوجها توفي وترك لها ثلاث بنات وولدين، وقد كانت تعمل هي أستاذة في إحدى المدارس الابتدائية لكنَّ راتبها لم يكفِ متطلبات أبنائها من دراسة وعلاج وكسوة. حاولت أن تجد عملاً إضافياً لكنَّ ظروفها الصحية لم تسمح لها بذلك، وأخيراً فضَّلت بيع الشاي على الوظيفة عندما رأت أنَّ دخل العمل الحر أفضل من مرتب الوظيفة.

مكث القطار في بربر نحو أربع ساعات بعدها أطلق السائق صفارته معلناً استعداده للرحيل، فتسارع الركاب نحو القطار وجلس كل منهم في مكانه. نفس الإحساس الذي انتابني حين مغادرتنا مدينة عطبرة شعرتُ به الآن وبصورة أقوى من قبل، شعرت أنَّني أريد أن أغوص في رحم التاريخ لأرى طفولة أمي في أرض بربر، وانتقل معها منذ ذلك العهد القديم إلى لحظة وقوفي بها الآن. بدأ القطار يتجه إلى أبو حمد مروراً بعدة محطات وسندات، وبدأ الشباب في التجمع والغناء بعد أن استعادوا نشاطهم، وأدار صاحب المسجل شريط الفنان وردي، وتصايح الشباب وصاروا يغنون معه، بينما كان خيالي يسرح بين كل الأزمان التي مرَّت بي بكل أفراحها وأحزانها، وصرت أردد في داخلي مع وردي:

قلت أرحل

أسوق خطواتي من زولاً نسى الالفة

أهون ليل

أسافر ليل

أتوه من مرفأ لي مرفأ

أبدل ريد بعد ريدك

عشان يمكن يكون أوفى

رحلت وجيت

في بعدك لقيت

كل الأرض منفى

عيونك زي سحاب الصيف تجافي بلاد وتسقي بلاد

وزي فرحاً يشيل مني الشقا ويزداد

وزي كلمات بتتأوه.. تتوه لمن يجي الميعاد

وزي عيداً غشاني وفات عاد عمَّ البلد أعياد

وزي فرح البعيد العاد

وزي وطناً وكت اشتاقلو برحل ليهو من غير زاد

ما أروعك التيجاني سعيد وأنت تعبر عن فراق كل حبيب غال، إنَّها لحظات انهزام نقف عندها، نستجمع قوانا لنواصل المسير نحو محطة أخرى من محطات الحياة.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..