مقالات سياسية

لأجل ذلك نعمل (2-10)

عبدالرحمن سليمان بابكري

للأمانة والتاريخ

في الحلقة السابقة من سلسلة المقالات هذه تحدثنا عن حاجة البلاد الي مؤتمر دستوري ، يتحدد عبره شكل الدولة ونظام الحكم. مؤتمر دستوري يشترك الجميع في وثيقته النهائية. ولا يمكن لنا أن نبني وطناً دون مشتركات أساسية قوامها الإعتراف بأصل المشكلة .

وفي كثير من كتاباتي وجدتني دائما ما أتحدث مع التركيز علي جملة الحلول ، في أن العملية السياسية في السودان لم تعد حكرا علي أحد وليس من حق فرد أن يدعي لوحده امتلاك الحق في الحلول.

وفي فهمي للسلطة أنها السبيل لبعث الأمل في نفوس الشعب نحو مبتغاه ، بتحقيق السلم والأمن والرفاه. وبصورة أدق يمكننا القول أن الحكم ينبني على معياري الكفاءة والنزاهة، وهذه لا تتوفر الا في وسط موضوعي وبسند جبهوي مفاهيمي يقوم علي مشتركات الوطن وفق فكرٍ اجتماعي.

وبالنظر الي مفاهيم التغيير التي نعنينها نجد بداً في تغيير معادلة الفعل السياسي لصالح أصحاب الحق في امتلاكه وتحقيق أهدافه المرجوة عبر منصة تؤمن بالتغيير الحقيقي والتحول نحو الديمقراطية.

ولفشل السلطة بسيطرة أقلية تظن أنها تملك الحق في التعبير عن الآخر . لا زالت ثورة الوعي ترواح مكانها، علي الرغم من أن الكثيرين من صناع الثورة وباعثي الأمل في النفوس يواصلون المسيرة عبر تطوير أدوات التغيير من وقت لآخر ، لقناعاتهم بأن التحول لا يمكن أن تكتمل أركانه الا عبر سلسلة من الإجراءات تبدأ بالفهم العميق لعمليات الإنتقال والحاجة الملحة للتطوير (الاجتماعي ـ الثقافي) و (الاقتصادي ـ التنموي) والذي يرتبط ارتباطأ وثيقا بالاستقرار الديمقراطي .

وبما ان العلاقة طردية بين الديمقراطية ونمو وتطور المجتمع. إلا أننا في الواقع نجد أن أحزاب النادي السياسي القديم طوال سنوات سيطرتها علي المشهد ، سواء تعلق الأمر بوجودها في السلطة أو المعارضة . لم تعمل بصورة جادة علي تطوير المجتمع. بل في الغالب تسعي الي افقار الشرائح المسيسة من القوى الصاعدة ، وذلك بغرض شل مقدرتها في امتلاك القوة التي تمكنها من تعزيز فرص المشاركة والمنافسة . وبذلك نجد أن الخوف من التغيير كان ولا يزال السمة الملازمة لقوى النادي السياسي القديم. وذلك لأجل استمرار الأوضاع القائمة.

أن القول بان ثورة ديسمبر 2019م جاءت صدفة ، لنقل أنها جاءت صدفة ، فهي صدفة ناتجة عن ضرورة وتستند علي وعي عميق في تغيير مسار الدولة . لأن عملية إعادة ترتيب الدولة يجب أن يشترك الجميع في صياغاته وهذه المسألة لابد أن تؤثر علي وضع الدستور وعمليات توزيع الاختصاصات ، لذا يعد الاستفتاء في القضايا الكبري ذات الطابع الشعبي، هو السلاح الأمثل لتوجيه مسار الدولة . خصوصا وأن في أذهان الكثيرين انفصال جنوب السودان. ولذلك لن تتوقف الاحتجاجات وستستمر بذات الوتيرة لتعمل علي تغذية وتدعيم مسار الثورة لهذه القوى الصاعدة . وستشكل تهديدا لقوى النادي القديم التي تعتمد علي التمثيل بفهم النخب الفوقية بعيدا عن المواطن العادي.

ولا تزال حتى الآن عملية استيعاب صدمة الثورة لصالح التحول تشكل ارباكا للأحزاب السياسية وسلوكا غير رشيدا في داخلها لاستقبال المفاجآت القادمة . لأن مسار الثورة قد قلب الأمور ظهرا علي عقب ، ليجعل من القوى الصاعدة والتي تمتلك جرأة و أجندة حقيقية وواضحة ، تقترب من السيطرة علي الحكم في الفترة الانتقالية مما يدفع العديد من قوى النادى القديم الي تبني بعض مواقفها. علي الرغم من أن هذه القوى الصاعدة تنتمي الي جذور مختلفة ومتباينة الا انها تشترك في امر واحد وهو التغيير الجذري العميق ابتداءا بتأسيس حكم مدني ينهي تدخل الجيش ـ انتهاءا بتحديد مسار الدولة في علاقاتها الخارجية بالا أسقف .

وبما أن القوي التقليدية نحجت ولسنوات من خلال سيطرتها علي الحكم في رسم صورة نمطية لشكل العلاقة مع المجتمع الدولي الا أن نتائج الثورة خصوصا لو نظرنا الي آخر مغامرات رئيس المجلس السيادي في موقفه من العلاقة بإسرائيل بجانب طلب رئيس الوزراء بوضع السودان تحت البند السادس من الميثاق الأممي. نجد صورة مغايرة لما هو معهود ما يعني رغبة الشباب في تبني الديمقراطية الشعبية في مجمل الأمور التي تتطلب مشاركتهم ـ كما أشرت في مسألة الاستفتاء في حالة القضايا الكلية . فلا مكان للقوى السياسية أن تتخذ رأى أو التحدث عنه دون الرجوع اليهم ويعد هذا المطلب مكسبا للتأييد الشعبي خصوصا بعد نجاحهم في اقتلاع أكبر نموذج للإستبداد في القارة الأفريقية.

لقد أثبتت التجربة اليوم أنه لا مجال للبت في قضية من القضايا دون إشراك الشارع في طرائق الحل وأساليب الاحتراز . وبما أن تسليم السلطة الي جماهير الشعب من خلال الدعوة الي تبني الديمقراطية الشعبية أصبح مطلبا أساسيا وثوريا . يعكس هذا الأسلوب أن هذه الثورة المفاهيمية تتفادي وبشكل مستمر حالة الإحباط التي دفعتها للخروج في ديسمبر 2019م مما جعلها تنتظم في شكل تنسيقيات مستنيرة تضع في صميم أبنيها قيم متجددة مثل حقوق الفرد، حماية الأقليات ، الديمقراطية الاجتماعية ، سيادة حكم القانون والعدالة الاجتماعية عناوين رئيسية لحركتها وحربها مع القوى التقليدية والعقائدية. هذا بجانب رؤيتها تجاه السلام بالبحث عن مصالحات فورية مع حركات الكفاح المسلح بعيدا عن التسوية والمناورات السياسية.

ومما يحمد لهذه الثورة أنها نحجت في صناعة حالة من التضامن الاجتماعي صار مدخلا للتكامل والاندماج الوطني والذي كان يشكل مصدرا للقلق حتي سقوط دكتاتورية الانقاذ . وعملت علي تحويل الدولة السودانية الي كيان قابل للحكم والتطور مستقبلا. ومن هنا تأتي الحاجة الي الديمقراطية الاجتماعية لهذه القوى الصاعدة نتيجة لحالة الشك في سلوك النادي السياسي القديم ذات الصبغة البرجوازية او بالأحري صنعية الظرف الزماني لتلك الحقب علي انها لم تعد قادرة علي مسايرة أهداف الثورة ، واذا كان لابد لهذه الأغلبيات المسحوقة التخلص من الاستعمار الداخلي لابد من تبني خيار الديمقراطية الاجتماعية لتتأسس عليها عمليات بناء الدولة مما يمكن الشعب من الاشتراك في صناعة القرار وادارة الشأن الذي يتعلق بمصائره.

لذلك تتلخص وجهة النظر هذه في أن الديمقراطية الاجتماعية تمثل بديلا ومخلّصا للشعوب من وكلاء الاستعمار بديمقراطية التمثيل الزائف او ما يسمي بديمقراطية المال الفاسد التي تتحكم في أجهزة الدولة عبر الحواضن الاقتصادية الطفيلية الملعونة التي تعبث بمقدرات الدولة وتشل قدرتها في مواجهة مطلوبات التنمية.

إن الديمقراطية الاجتماعية تبقي شرطا لازما لصلاح الديمقراطية السياسية لانها تهتم بتحقيق العدالة من خلال اهتمامها بتحسين اوضاع المواطن العادي عن طريق مبدأ العدالة الاجتماعية استنادا علي قسمة الموارد. فالمساواة بين الأفراد تعتمد بشكل كامل علي العدالة الاجتماعية.

ختاما إن نجاح ثورة الشباب السوداني في ديسمبر وتصديهم لأدوات القمع ساعدت الكثيرين من أبناء الشعب علي معرفة مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية وحركت الكثير من طاقاتهم الكامنة نحو بناء مجتمع أكثر عدالة . وحتى تكتمل أركان التحول لابد من االتنسيق المستمر عبر هذه المكونات للضغط علي حكومة الانتقال في تفكيك تركة النظام البائد تمهيدا لإعادة بناء الدولة. بالعمل علي تطابق فلسفة البناء مع مطلوبات الفعل السياسي الجاد.

إن تحكم الاحتكارات والسمسرة في كل مرافق الدولة في السياسة ، الاقتصاد ، القضاء وفي الاعلام تجعل من الشعوب السودانية غير قادرة علي الدفاع عن نفسها لغياب أدوات التحكم. ولمعرفتنا التامة بعدم رغبة السلطة الاقتصادية في دعم الديمقراطية الاجتماعية لتأثيرها المباشر على امتيازاتها التي تقوم علي الجشع في الارباح واعتمادتها علي نظرة طبقية كان لابد من تبني ودعم وتطوير الديمقراطية الاجتماعية لضبط حركة الموارد وضمان سلامة توزيعها وحسن ادارتها رغبة في النمو الاقتصادي السليم مع توظيفها بشكل عادل وعقلاني ولأجل ذلك نعمل.
عبدالرحمن سليمان بابكري
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..