مكاتب الولايات بالخرطوم “المتابعة” .. دولة داخل دولة

مديرو بعض مكاتب المتابعة استمدوا قوتهم لخلق نفوذ ساعدهم على تولي مناصب دستورية
الحلقة الثانية
الخرطوم:ناهد سعيد
حتى استوثق من حقيقة وجود مكاتب متابعة وتنسيق الولايات بالعاصمة التي صدرت من قبل قرارات قضت بإغلاقها كان لزاما عليّ أن أتجول في أنحاء مختلفة من الخرطوم ، مشقة ذلك إلا أن ما تكشف لي من حقائق على الأرض أصابني بالدهشة لأن معظم المكاتب التي زرتها بدت لي من عدد موظفيها والحركة التي تشهدها لا تختلف كثيرا عن الوحدات الحكومية بل ربما تفوق بعضها من حيث العاملون في هذه المكاتب التي أنشأتها الولايات للمتابعة الإدارية بالعاصمة وهي مهمة تتباين حولها الآراء بين مؤكدة على أهمية وجود المكاتب لادائها ورافضة لها بل ومعتبرة أن هذا الأمر ينطوي على مخالفة صريحة لقرارات صدرت في هذا الخصوص.
أحياء وارقام
الجولة التي سجلتها لأكثر من عشرة مكاتب متابعة بالخرطوم بدأتها بوسط العاصمة وعلى مقربة من السوق العربي الذي توجد إلى الجنوب منه وإلى الغرب من كبري المسلمية أبراج سكنية ضخمة وفيها دلفت إلى مكتبين في البرج ٣٢ و٣٨ يتبعان إلى ولايتين دارفوريتين وفيهما وجدت عددا من الموظفين . سألت أحدهما بالمكتب الأول عن معلومات بالولاية ولم يتوانَ في تقديمها لي لأنها كانت عامة بوصفي أود زيارتها لحضور منشط طلابي شبابي ، ولاحظت في المكتبين أن عدد الموظفين في كل واحد يتجاوز العشرة مع وجود حركة لا تهدأ من مواطنين وشباب يبدو عليهم أنهم طلاب حضروا جميعا لقضاء معاملات وربما الحصول على تبرعات فقد سمعت احدهم يسأل إن تم التصديق لهم بطلب دعم إحدى الروابط الطلابية الجامعية . خارج المكتبين سألت موظفا في إدارة مختصة بالأبراج عن سعر إيجار الشقة في الشهر فقال إنها تتراوح بين الخمسة عشر ألف جنيه إلى الثلاثين ألف ، وعلمت ان مكتبيْ المتابعة يكلفان خزانة الولايتين في الإيجار ستين ألفا من الجنيهات هذا بخلاف الكهرباء،بعد ذلك توجهت إلى الخرطوم ثلاثة والتي وللمفارقة توجد فيها أربعة من مكاتب المتابعة الخاصة بولايات نيلية وتكررت ذات المشاهد من وجود عدد كبير من الموظفين والسيارات التي تقف خارجها بالإضافة الي العامل المشترك وهو عدم وجود لافتة تشير وتوضح حقيقة هذا المبنى ،أما على صعيد المباني فهي عبارة عن منازل معظمها من طابقين . أيضا يتم استئجارها بمبالغ تراوحت بين العشرين الف جنيه إلى الثلاثين الف جنيه . في أحد المكاتب توجد كما علمت من الخفير استراحة تم تأسيسها بشكل جيد لاستقبال الوالي والدستوريين عند حضورهم للعاصمة وقال إنها من النادر أن تخلو من الضيوف،بعد ذلك توجهت ناحية الخرطوم شرق حيث توجد بأحيائها في الرياض والمنشية وبري أيضا مكاتب متابعة وكذلك العمارات والمنطقة الصناعية الخرطوم ، وبعد جولة استمرت ليومين علي التوالي وضح لي ان مكاتب متابعة وتنسيق الولايات تزاول عملها بعدد من الموظفين كبير، يفوق حجم نشاطها المحدود وأن العقارات التي تستأجرها تبدو باهظة التكاليف وتقترب من النصف مليون جنيه في الشهر هذا بخلاف تكلفة الكهرباء والوقود والسيارات والاستراحات.
تاريخ وعودة
يقول المعتصم أوشي مدير إدارة المتابعة والتنسيق بديوان الحكم الاتحادي إن مسمّى مكاتب متابعة شؤون الاقليم بدأ في الثمانينات من القرن الماضي وأنه وبمرور الزمن تحولت لمكاتب المتابعة والاتصال وأضيفت اليها مفردة التموين وكان الهيكل الوظيفى والتنظيمي محدودا وأضاف: أود أن أسرد لكم قصة أول مكتب متابعة بالسودان كان ذلك لدي زيارة رئيس الجمهورية الراحل نميري للولاية الشمالية للمشاركة فى اجتماعات مجلس الإقليم في العام 1983م وكنت وقتها ضابطا إداريا بمجلس ريفى دنقلا وقد دار نقاش بيني وبين رئيس الجمهورية نتج عنه فهم مشترك لحد ما مما حدا به لتوجيه الأخ محافظ المديرية الشمالية انذاك جعفر أحمد دفع الله وهو شقيق رئيس القضاة الحالى مولانا حيدر أحمد دفع الله بنقلي إلى الخرطوم وعندما طرح عليّ أبديت الموافقة الفورية وبلغت أسرتي وقد كان وحضرت إلى الخرطوم بصفتي أول مدير مكتب متابعة شؤون الإقليم الشمالي .
مشيرا إلى أن مكاتب متابعة الأقاليم الستة كان مقرها بمبنى وزارة الخارجية حاليا والذي كان مقرا لحزب الاتحاد الاشتراكي سابقا وقبلها كان مبني سودان كلوب والهدف كما أسلفت كان إنشاء مكتب الإقليم الشمالي الذي يعتبر أول المكاتب وكان الحاكم وقتها بروفسير عبد الله أحمد عبد الله وتلته البقية من مكاتب الأقاليم ، وكنت مشرفا على المتابعة والتموين وكل شؤون الاقليم وبعد ذلك بدأت المكاتب في تعيين مديرين لها توافدوا بالتدريج ،وتم تكليفنا بوضع اختصاصات المكاتب وتحديد هيكل رشيق لإدارتها يمنع الترهل وقد كان ذلك . وضعنا هيكلا مشتركا ويشتمل على وجود مدير على ألا يتجاوز الفريق بما فيهم المدير خمسة أفراد ، من بينهم مدير للمراسم ومدير مالي وسكرتيرة وسائق وكان العمل يسير بصورة إيجابية ومع مرور الزمن أصبحت تلك المكاتب ملاذا للحكومة والمواطنين في آن واحد .
ابتداع وأخطاء
ويمضي أوشي في حديثه :ابتدعت المكاتب بدعة فتح الحسابات لعدد من الوزارات تحت مسميات محددة ومعروف أن المسؤول عن فتح تلك الحسابات وزارة المالية ،وبظهور عدد من الحسابات تم الحاق ممثلين للوزارات لمتابعة حساباتهم ،ولم يقتصر الأمر على ذلك بل شمل أيضا تنقلات الضباط الإداريين وإلحاق الذين لايذهبون إلى المناطق البعيدة بالمكتب وكنا بالفعل نوكل إليهم متابعة بعض الأشياء وايضا تضخمت إدارة المراسم بمختلف المسميات والأشكال الوظيفية وحدث ترهل وأصبحت مدعاة لوجود الدستوريين الذين تركوا الأقاليم واستقروا بالعاصمة لأنهم وجدوا مكانا يؤويهم بدلا من قضاء مهامهم والرجوع إلى ولاياتهم فقد آثروا البقاء بدلا من أن يوكلوا إلينا شأن المتابعة حسب اختصاصاتنا ،وكان الدستوريون يصرون على البقاء ، الأمر الذى يشكل عبئا إضافيا علينا بمرافقتهم وبذلك توسعنا فى إيجار الاستراحات وهي أيضا تحتاج لقوى عاملة من طباخ وغفير وعامل نظافة وغيرهم بالإضافة لتوفير الأثاثات ومضى الأمر على هذا الشأن منذ 1983 إلى العام 1986 حيث صدر قرار من المجلس العسكرى الانتقالى ابان فترة الرئيس الراحل سوار الدهب تم فيها حل هذه المكاتب وسحب كل الفريق العامل عدا ثلاثة فقط وأبقى على الموظفين القداى ..
تحايل وعودة
فى بداية الإنقاذ للمرة الثانية ألغيت تلك المكاتب واستمر الحال على ماهو عليه لفترة من الزمان دون مكاتب متابعة وفي النصف الاول من التسعينات تم تقنينها والعودة لأضيق كادر بشري وتم تقليصها ومع بداية الحكم الفدرالى وتقسيم الولايات ، فى العام 1996م وجه وزير ديوان الحكم الاتحادى الدكتور على الحاج بإعداد دراسة حول الرؤية المستقبلية لمكاتب المتابعة وبالفعل قمنا بإعدادها احتوت على هيكل إداري رشيق ولا يتجاوز عددهم خمسة أشخاص وأيضا وضعنا خيار نقل تلك المكاتب إلى ديوان الحكم الاتحادى لتكون تحت إشرافه المباشر وبدلا من فتح حسابات مصرفية متعددة فى المصارف يكون هناك حساب مشترك باسم التنسيق والمتابعة أو باسم الدايون خاص بشؤون الولايات توضع فيه المبالغ وهي عبارة عن أمانات ، وتصرف تحت إشراف الديوان حتى يكون هناك ضبط ومراقبة لأموال الولايات ومعرفة أوجه الصرف ويتم إخضاعه لمراجعة دقيقة ، وبرأيي عندما يستظلون بمظلة الديون يسهل عليهم تكملة الإجراءات عبر الديوان فيما يخص المخاطبات الخارجية ومؤسسة الرئاسة ، وأصدقكم بأن هذا النظام الخاص بوجود المكاتب بالديوان طبق لفترة عامين فقط ،ولكن و مع احترامنا لبعض الولاة فإن منهم من كان ينظر للأمر بأنه شأن ولائي وبدأت عمليات التسلل من الديوان وبالفعل عادوا للوضع القديم لتحقيق أغراض تخصهم لوجستيا أو جغرافيا لا يمكن تحقيقها بوجودهم داخل الديوان .
ترهل
يمضي أوشي في حديثه ويضيف : الترهل الذى صاحب كل مفاصل الدولة حدا بالأخ رئيس الجمهورية ومؤسسة الرئاسة لإطلاق حزمة من البرامج الرامية لإصلاح الدولة منها القرار رقم 155 الذي يعد واحدا من الحزم المناط بنا إنفاذها وهى مما يلينا في إصلاح الحكم المحلي ،وأعتقد أنه ومن اكبر الأخطاء أن المكاتب باتت خارج سلطة الديوان بموجب الدستور الذي منح الولايات هذا الحق وبذلك لم يعد للديوان سلطة على مكاتب المتابعة التي ترهلت وضاعفت من الصرف.
ممارسات سالبة
ويشير مصدر إلى أن بعضا من مكاتب المتابعة تشهد تجاوزات ، وضرب مثلا بمدير مكتب ىالولايات الاقتصادية بالخرطوم ويشير إلى أن وزير المالية بالولاية ومنذ أن تولى مسؤوليته فإنه لم يزر المكتب وظل يقضي أعماله بعيدا عن مكتب المتابعة خاصة المتعلقة بالتعاقدات ،ويؤكد ان الوزير له رأي سالب في أداء المكتب ،وأضاف:وزارة المالية ابتعثت وحدة مالية لتتم عبرها كل الإجراءات المالية ،و في العام الماضي تم التصديق بخمسة عشر ألف جوال سكر واتفق مدير المكتب مع إحدى شركات النقل لترحيل السكر بواقع 550 جنيها للطن الواحد ولكن وزير المالية رفض هذا الأمر واتصل بإحدى الشركات الخاصة التي وافقت علي ترحيل الطن نظير 320 جنيها فقط وهذا جعل الموظف المسؤول في المكتب يرفض تسليم الشركة مستندات السكر لمدة ثلاثة أيام إلى أن تدخل مسؤول نافذ في الولاية ،وقال المصدر إن عربة والي الولاية احتاجت لصيانة وأن مدير المكتب أحضر فاتورة بمبلغ 220 ألف جنيه ولكن احد المسؤولين رفض ذلك وتم تكليف شركة أخرى بصيانة العربة نظير 72 ألف جنيه فقط.
شبهات
من خلال تقصينا عن مكاتب المتابعة فقد علمنا بوجود علاقات وطيدة بين بعض مديري المكاتب ونظرائهم المسؤولين عن مكاتب الوزراء الاتحادين يتم تسخيرها بطرق مختلفة لخدمة الولايات وأشار مصدر إلى أن الهدايا الشخصية من ضمن الآليات والوسائل التي يقضي بها مديرو مكاتب المتابعة معاملاتم،ولفت إلى أن الكثير من هؤلاء المديرين استغلوا تواصلهم مع المسؤولين المركزيين واستمدوا منها قوتهم التي تمكنوا من خلالها من خلق نفوذ ساعد بعضهم على تولي مناصب دستورية بالولايات ،وقال إن بعض الولايات تمتلك مكاتب معروفة للعامة وأن الولاة يتم تخصيص استراحات لهم ،وأشار إلى أن مدير مكتب أحدى الولايات وفي سبيل زيادة دخله يتولى أمر متابعة تصاديق ولايات أخرى .

التيار

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..