المسؤلية الجنائية الدولية والقيم الانسانية

تعد المسؤولية الجنائية الدولية في القانون الجنائي الدولي موضوعا لا يزال في مراحل تطوره، ويكتنفه بعض الغموض حتى الآن، وهو من الموضوعات التي لا يزال يحدث بشأنها جدل واسع.
وتقع المسؤولية الجنائية الدولية -عادة- نتيجة تخلف شخص القانوني الدولي عن القيام بالتزاماته، أو إتيانه فعلا غير مشروع يمس قاعدة من قواعد القانون، سواء بالامتناع عن عمل أو القيام بعمل، وما يستدعي الانتباه له بعين البصيرة وعقل التدبر، هو أنّ الجرائم الجنائية الدولية، سواء من قبل بعض الدول أو الجماعات المتفلتة، قد انتشرت بصورة لم يسبق لها مثيل في هذا العصر، بحكم التطور الهائل الذي حدث في وسائل الاتصال، ما أدى إلى سهولة التواصل والتنقل من مكان لآخر دون كثير عناء، حيث تُمارس الجريمة دون أن تكبد مرتكبها التنقل، ما جعل مسرح الجريمة وفقاً للتعريف التقليدي لم يعد له معنى.
ذلك أنّ العالم قد أصبح مسرحاً، أبوابه مشرعة على الفضاء، وساحاته متسعة، ما شكل خطرا متزايداً على مصالح المجتمع الدولي بصورة مزعجة، لا سيما جرائم الإرهاب التي تؤدي إلى إثارة الفزع والخوف في نفوس المواطنين الأبرياء. ما يستوجب معه تفعيل القوانين الدولية ومبادئ إرساء السلم العالمي وصيانته قبل فوات الأوان، ولم نزل نرى أمام أعيننا المآسي التي تحدث يومياً، وهي تمثل انتهاكاً صريحاً وصارخاً للمبادئ والأعراف الدولية، ولهذا فقد أصبح من الأهمية بمكان تحديد المسؤولية على وجه الدقة، على من ينتهكون المبادئ والقواعد الدولية، ومن ثم العقاب الرادع المصاحب لهذه المسؤولية، وهذا أمر لا بد له من أن يحدث في نزاهة وحياد تامين؛ حتى لا يجد البعض مبررات انتهاك السلم العالمي وهم يرون أمام أعينهم من ينتهك قواعد ومبادئ القانون الدولي دون أن تقع عليه مسؤولية تذكر. وعلى رأس هذه الجرائم، نجد جريمة الإبادة الجماعية التي انتشرت في الآونة الأخيرة على نطاق واسع، وتشير الاستطلاعات والدراسات المتخصصة اليوم إلى انتشار جريمة الإبادة الجماعية، ما يطلق عليها جريمة إبادة الجنس البشري التي أصبحت إحدى الجرائم شديدة الخطورة، ما يثير قلق المجتمع الدولي بأسره، لما تنطوي عليه هذه الجريمة من قسوة ووحشية تستهدف القضاء الكلي أو الجزئي على جماعة عرقية أو وطنية أو دينية أو طائفية بعينها، وقد تسببت هذه الجريمة في قتل وتشريد أعداد مهولة من البشر على مستوى العالم، إلى ما يُقارب المليار نسمة من قتيل وجريح ومشرد، معظمهم مدنيون من النساء والأطفال، وبالطبع فان نسبة كبيرة كهذه تفضح، إذ تفضح عجز المؤسسات والمنظمات الدولية عن القيام بدورها المنوط بها، والكثيرون يتهمون هذه المؤسسات والمنظمات الدولية بعدم الحياد والكيل بمكيالين، ما قد يؤدي إلى انفلات أمني عالمي.
جريمة الإبادة الجماعية تتميز بأنها تنتقل من دولة لأخرى في يسر بالغ الخطورة دون التفريق بين أشخاص أو ثقافات في ارتكاب هذه الجرائم. لذا، جاءت على قمة الجرائم التي يترتب عليها تقرير المسؤولية الجنائية الدولية على قادة الدول على وجه التحديد، ذلك أنها قد تقع في زمن السلم والحرب على حد سواء، في صورها البشعة غير الإنسانية ، وتعد فكرة الإنسانية كمفهوم قانوني حديث نسبيا في التشريعات الوطنية والدولية، بحسب تطور الفكر القانوني الذي ارتبط بنظرية الشخص القانوني الطبيعي أو الاعتباري، ويتطور مفهوم الشخصية القانونية على المستوي الدولي بحسب تطور أشخاص القانون الدولي ما يستوجب معه تطور وتفعيل القضاء الجنائي الدولي، والذي يتمثل في محاكمة كبار مجرمي الحرب من القادة والرؤساء عما يقترفونه من جرائم ذات خطورة شديدة على المجتمع الدولي بأسره، ومثل هؤلاء القادة نجدهم لا يرتكبون الجريمة بأنفسهم، بل يأمرون أو يخططون أو يحرضون أو يساهمون بشكل أو بآخر في ارتكابها، ولا بدّ للقانون الجنائي الدولي أن يعرّف المسؤولية الجنائية المباشرة للقادة بكافة صورها، سواء أكان هؤلاء القادة فاعلين أصليين بصورة مباشرة أو غير مباشرة حين يرتكبونها عن طريق الغير، بأي شكل من أشكال ارتكاب الفعل المجرّم..
وعلى ذلك، فإن صور المسؤولية الجنائية المباشرة للقادة تتمثل في المساهمة الجنائية الأصلية والمساهمة الجنائية التبعية، والاتفاق الجنائي، أو ما يطلق عليه (المشروع الإجرامي المشترك)، وهو ما يحدث اليوم على مستوى الكثير من الدول التي تظهر في العلن بأنها حارسة السلم العالمي، في حين أنها ومن وراء ستار تخطط لنقيض ذلك. وقادة هذه الدول كثيراً ما يمثلون دور الحاكم الحريص على السلم العالمي، في حين أننا نجدهم وهم من يستدرج الآخرين لتنفيذ مآربهم وما تنطوي عليه أجندتهم الخفية من جرم، ونجد نشاطهم موجها لقادة دول بعينها في جو مشحون بالطموحات الشخصية لقادة تلك الدول، دون النزول لطموحات الشعوب في حق الحياة في أمن وسلام، وحتى لا يصبح الأمر مرهونا بأوامر قادة الدول منفردين عن مؤسسات دولهم بمختلف مشاربها؛ فلابدّ من تطور القانون الدولي، وشرح قواعده بناءً على القيم والمبادئ الانسانية الرفيعة، حتى يرتقي الفرد والجماعات والمؤسسات بالترفع عن تنفيذ أوامر من شأنها أن تحيق بالإنسان من غير مبرر، ولا بد من ترسيخ الفهم بما يمكن من ملاحقة مرتكبي جرائم ضد الإنسانية وعلى رأسها جريمة الإبادة الجماعية، وحتى لا يكون لأحد التذرع بما يصدره قادة الدول من أوامر كثيراً ما يتستر من خلفها منفذو مثل هذه الجرائم وفي مفهومهم أن لهم في ذلك مانعا من موانع المسؤولية الجنائية، من ثمّ الإفلات من العقاب، وبالمقابل نجد من يصدرون مثل هذه الأوامر يتنصلون من مسؤوليتهم الشخصية فيما يصدر منهم من أوامر، والتي كثيراً ما تصدر في سرية تامة، بل قد تكون شفوية في معظم الأحوال، ولقد آن لشعوب العالم قاطبة أن تدرك أن هناك مفاهيم جديدة تُبنى على قيم إنسانية نبيلة لن ترسخ معانيها إلا بوعي الشعوب.
علي أحمد جارالنبي المحامي والمستشار القانوني
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..