
لاتطفئوا النار بعد اتّقادها
برغم اليأس والإحباط الذي تغشّى الثورة في الأونة الخيرة بفعل الأداء السياسي للمكونين الحاكم والمعارض ، إلا أن الوجه الآخر من فيضانات البلاد يكمن في تقريبها المسافات التي تباينت بين ثقة الشعب ومكوناته السياسية ، وزاد الأمر تقاربا تلك الفعلة الشنيعة التي قام بها مخربو الظل في مضاربات العملة والذهب ، ماجعل الجميع يتحسسون رؤوسهم ويعلمون أن المحافظة على وطن الثورة غدى فرض عين لاكفاية ، فهبت مجموعة من الاعلاميين لمحاربة الإفساد الإقتصادي بالقلم ، وتلك هي البداية الصحيحة والأقوى ، فالإجراءات الأمنية المغلّظة التي اتخذتها الدولة لاتعدو أن تكون علاجا موضعيا مؤقتا سيعيد الوضع إلى سيرته الأولى ، والشواهد على ذلك كثيرة وتم تجريبها كثيرا دون جدوى .
الحكومة اختارت الحل الأمني كحل وحيد للأزمة وتلك هي الكارثة ، لأن الحلول الأمنية برغم حاجتنا الماسة لها لوقف هذا العبث ، لابد أن تصاحبها حلول منهجية أكاديمية وتخطيطية سليمة ، وحتى لو خاف كل مضاربو الدولار وتوقفوا عن مضارباتهم الضارة ، فإن الخلل الواضح في القوانين وموازين الانتاج والصادر والوارد قد يعيد الأمور لوضع أسوأ ، وحتى الحلول الأمنية يجب أن تبقى منضبطة بالقانون ، وأن لاتشكّل ثغرة للعودة إلى انتهاكات حقوق المواطن من جديد ، فكل شيء لوفات حده سيتحول دون شك للضد ، وحماسة قائد الشرطة يجب أن لاتنسيه أنه المسؤول عن بسط وحماية القانون ، وأنه يجب أن يضرب بيد من قانون لابيد من حديد لأن القانون يجرّم الضرب بالحديد .
مشكلتنا الأساسية أن أغلب كوادر حكومتنا المدنية هم من الإقتصاديين أو ممن لهم علاقة بالإقتصاد ، ولا أحد ينكر كفاءتهم الأكاديمية في هذا المجال ، ولكن من المستغرب والمعيب أن ينهزم كل هذا الجيش الجرار من الإقتصاديين أمام حفنة أبناء سوق ومضاربين لم يتخرجوا من كليات الاقتصاد ، ولم يسهروا الليالي في مذاكرة ومراجعة النظريات الاقتصادية العالمية للدرجة التي وصل فها اقتصاديونا لتسليم ملف الاقتصاد الرسمي للبلاد إلى نائب رئيس المجلس السيادي وهو عسكري لاصلة له بفقه الإقتصاد ، وقبل مشكورا بجعلنته السودانية أن يلبس جلبابا لم يتم تفصيله على مقاسه ليحفظ ماء وجه خبراء اقتصادنا .
فيضان النيل يجب أن يبقى المنطلق ، فالتلاحم الشعبي والوطني الذي عاد تحت قانون أن المصائب تجمع المصابين ، يحتاج المحافظة عليه لأن ماينتظرنا كثير ، منازل مدمرة تحتاج التشييد ، ومرافق عامة تحتاج الترميم ، وأسر تحتاج المأوى ، وبطالة تنتظر الفرج ، وعمالة ساسة تنتظر التراجع والتوبة النصوحة ، وخلافات دنكشوتية أقعدتنا منذ بداية الثورة ، وهذا النيل يجب أن لايفيض مرة أخرى ويحدث أدنى تدمير طالما أن وسائل التحكم فيه ممكنة وفي متناول اليد .
أسعار العملة يجب أن تستقر في وضع مريح لمعيشة المواطن ، ولو كان المسؤولون عاجزين عن إيجاد خطط لتحقيق ذلك فعليهم إفساح المجال لآخرين قادرين ، لأن مسألة إطالة عمر الفرد في الكرسي لم تعد تخضع في سودان مابعد الثورة لغير عاملي الوطنية والانجاز ، أما المؤسسة العسكرية فيجب أن تجلي عن عينيها الغشاوة التي طلاها بها من اجتمعت بهم في الفترة الأخيرة ممن قال فيهم الشعب رأيه وكلمته، وأن تعيد للوطن ثرواته ، فليس لرئيسها ولالغيره صلاحية التّحكّم في تلك الثروات والشركات التي هي ملك للشعب بمؤسستها العسكرية ، فالمؤسسة العسكرية يجب أن تتنظّم مليونيات بل ملياريات شعبية من أجل الضغط عليها وإجبارها على الإختيار بين أن تكون مؤسسة عسكرية أو تكون مؤسسة إقتصادية ، وهذه هي الحقيقة التي يتهرب منها الكثيرون ، والحل الوحيد لاستقرار عملتنا الوطنية وبلادنا وثورتها .
وقد بلغت
عبدالدين سلامة