الفطْحول..!

ظاهرة فتح كناتين في الصفحة الأخيرة من صحافتنا، هو جزء من فقه التمكين، بعد حل نقابتنا المُنتخبة برئاسة المرحوم عمر عبد التام ويوسف الشنبلي، أعني هنا نقابتنا الديمقراطية، التي صمم بطاقتها الفنان القدير زين العابدين محمود..
كان هذا قبل أن يستقدِم مؤسسو السيستِم، عضوية الحزب لتمكينها داخل القطاع الصحفي، عن طريق إغراقه بأهل الولاء من العاملين في مكاتب العلاقات العامة، وكُتّاب ورق الحائط، وكل من يريد الإفادة المادية من صِفة صحفي في زمان الصحّاف.
سياسة الإغراق هذه أتاحت لمن لا مهنة له أن يمتهن الصحافة، وبموجب ذلك دخل السياسيون في الخط، فأصبح في مقدور كل متمكن أن يطرح نفسه جورنالجياً، إلى جانب مهنته تلك.
كل الفاشلين في أحزابهم من منسوبي التنظيم الحاكِم، أو من بقية أحزاب الأمة، على التحقيق، ظلّوا يطرحون أنفسهم كـ (كُتّاب شُونة)، يداهمون صحف الخرطوم من مصلحة المخازن أو البنوك والمصارف، أو بعد فشلٍ في هندسة الطب، أو بعد فلسفة فوق فريع البان.
كل من له قوة عين، يستطيع أن (يركِّب مَكَنة) محمد حسنين هيكل، ويُدلي بتنظيرات غير مردودة، حول (البونط والفونط)، فيحصل بتلك الجُرأة على راتب لا يحلم به حتى المعلِّم فيصل محمد صالح، ولا حتى الأستاذة مديحة عبد الله، بجلال قدرها.. ولأن الحِكاية قايمة مفتولة، وخربانة مِن كُبارا، فإن هجمة كتاب الإنشاء على الأخيرة، هي القدر اللّعين الذي يستجيب له الناشر، فيقع بموجب ذلك في تسخير متبادل، بين تلميع للذات، مقابل امتيازات، وتسهيلات، وإعلانات لأولئك.
لهذا كانت كناتين جرايد الخرطوم، محل صِراع الذين هبطوا من السماء.. وهناك نوعية من كُتّاب الشونة، (مُستعدّين يضاربو) في سبيل حجز ناصية في الصفحة الأخيرة، مثل دكّان اليماني، في سوق الفور..
وأعجب من هذه، ظهور الفطحول، الذي تُجرجِرُ إليه الصحيفة أذيالها.. والفطحول ــ يا صاحِبي ــ مُنتَج إنقاذي، غالباً ما تكون رئاسة التحرير، هي أول وظيفة يلتحق بها، دون أن تصيبه غَبَرة شوارع، أو يدفع بتحقيق ميداني، أو يقوم بتصوير جِناية.. تأتيه مُنقادة، دون بهدلة مكاتب أو حُوامة بين الكلاكلات وحاج منفى.. الفطحول يأتي المِهنة بالترفيع الذاتي، فلا يرضيه مرتب واحد من جهاز، أو مؤسسة راعية، بل يكاوِر كل ذلك، مع مظاريف المُضيف، وذلك أضعف الإيمان..!
إن أاردت رؤية الفرق بين تمظهُر الفطحول، وتاريخنا، فانظر كيف يحرص الأُستاذ محجوب محمد صالح على تدوين زاويته اليومية في الصفحة الخامسة من جريدة الأيام.. ولأن أهل العَوَض قد سمموا واقع الصحافة بموجب هذه الفرية، فقد أمَرَ (الشَّديد القوي) قبل عامين، بنزع كلِماتي المتواضِعة من أخيرة آخر لحظة، ظناً منه أنه يطمرها في قالب النسيان.
اليوم أُطِل على القراء الكِرام من هُنا، بموجب تقليد مهني، يعطي رئيس التحرير، الحق في النزع وإعادة التركيب.. قد أعود مرة أُخرى إلى صفحات الداخل.. ما فرَقَتْ، فبعضاً مما تعلّمته من أستاذي توفيق جاويش ــ له الرحمة ــ أن أوسع ميدان في الدنيا هو الجريدة، وأن القارئ لا يفرِّق بين صفحة وأخرى، من مطبوع قرر أن يشتريه.
قبل سنوات اجتمعنا في حضرة الدكتور مرتضى الغالي، استعداداً لإصدار صحيفة ذات اسم صارخ.. وعندما وصلنا مرحلة التبويب، داهمنا نمل التناضُل، ومنافيخ الكرفتات، وعشاق الكاميرا ومناضيد المكاتب الفخيمة.. كانوا جميعاً يرغبون في الظهور على الصفحة الأخيرة، بينما كان د. مرتضى، يشدد على تثبيت (مسألته) في الصفحة الثانية، من أجل عدم التكويع بالماكيت..!
وروح يا زمان، وتعال يا زمان..!
وحتى يأتي زمان السعادة، سيظل عالم الصحافة والمطبوعات (دَاقِّي سيستِمْ) بزعامة ودّ العوض، ولله في خلقه شؤون..!
اخر لحظة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..