مقالات سياسية

خربشات علي جدران الثورة-1

مدخل:

المتتبع لتاريخ الثورات يجدها لا تسير في منحني مستقيم بل تمر بمنعطفات و فترات صعود و هبوط و الثورة السودانية ليست استثناء.

و ذلك لأن أي عملية تغيير مرتبطة بالإنسان تواجه مطبات عديدة. فالانسان عبارة عن تركبية من المعتقدات و التصورات و الآراء و الاهواء تكونت عبر تسلسل طويل خلال ظروف التنشئة و نوعية التعليم  الذي تلقاه و المؤثرات الاجتماعية و البيئية التي تعرض لها منذ طفولته.

و لذلك عندما نشرع في التغيير و الاصلاح الي نمط جديد فإننا نواجه كل هذا الارث الذي تعود عليه هذا الانسان و شكل حياته و تفضيلاته.

و اذا اردنا اسقاط ذلك علي واقعنا السوداني بعد الثورة نجد اننا نقاتل نمط و سلوك تشكل علي مدي أكثر من ستين عاما من الممارسات السياسية و التعليمية و المجتمعية انتجت الانسان السوداني  بكافة تفاصيله التي تلعب دورا كبيرا في المشهد الحالي بكل تعقيداته.

فالخلل الذي لازم بنية الدولة الادارية و السياسية و الاجتماعية ليس وليد نظام الانقاذ بسنواته الثلاثين العجاف بل كان نظام الانقاذ نتاج لذلك الخلل المورث منذ فجر قيام الدولة الوطنية عقب خروج المستعمر الانجليزي.

خطوات في سبيل الإصلاح:

  • الإصلاح المجتمعي:

المجتمع السوداني  شديد التشرزم علي اساس قبلي و جهوي و طائفي و هو امر ملازم لبنية مجتمعنا منذ العهد المهدوي فثنائية اولاد الغرب و اولاد البحر ثنائية قديمة تجلت بوضوح في عهد الخليفة المهدوي عبد الله التعايشي و هذا الصراع بالاضافة لعوامل اخري كان من اهم الاسباب التي اضعفت الدولة المهدوية و تسببت في زوالها.

و فشل السودانيون علي مدي حقب متعاقبة بعد الاستقلال من المستعمر الانجليزي في بناء نسيج مجتمعي متجانس يتجاوز هذه الثنائية.

ربما فترة الديمقراطية الثالثة كانت الفرصة الاكبر لتجاوز ذلك التشرزم و لكن المماحكات الطائفية و السياسية اهدرت تلك الفرصة الثمينة الي ان اتي نظام الانقاذ فرجع بنا القهقري بصورة مريعة في مجال السلم الاجتماعي و غيره من المجالات .

فتم في عهد الانقاذيين اللاميمون تسييس الاثنيات و تمت اضافة ثنائيات اخري لثنائية اولاد الغرب و اولاد البحر. مثل ثنائية العرب و الزرقة  في دارفور و ثنائبة العرب و النوبة في كردفان و ثنائية الشايقية و الجعليين في نهر النيل و سياسة الاستهداف الممنهج لمناطق النوبيين في اقصي الشمال و تمزيق النسيج الاجتماعي المتصالح نسبيا في شرق السودان.

فورثنا من ذلك النظام نسيجا اجتماعيا ممزقا جهويا و قبليا و عشائريا بصورة غير مسبوقة و ادي ذلك الي نشوب نزاعات مسلحة علي اساس قبلي في بقاع شتي من الوطن عقب سقوط النظام مثل احداث بورتسودان الاولي و الثانية و احداث كسلا و كادوقلي و الجنينة و تلس.

العلاج فيما اعتقد هو  نشر ثقافة اننا  شعب واحد نتشارك هذه البقعة من افريقيا و مصيرنا في النهوض و الزوال واحد و إن التنوع النسبي الذي نشاهده في عاداتنا و سحناتنا و لهجاتنا ما هو إلا تنوع في إطار أفريقي سودانوي يجب أن لا يكون سبب في الفرقة و التشرذم.

و إن المظلوميات التاريخية ليست وراءها إثنيات بعينها بل نخب فعلت ذلك من منطلق مصالحها الذاتية و هذا لا يعني بأي حال من الاحوال التنازل عن تلك المظلوميات بل يجب معالجتها لوضع الاطار الصحيح للإصلاح المجتمعي.

و لتنفيذ ذلك يتحتم علي مثقفينا افراد و جماعات و منظمات مجتمع مدني ان ينفروا الي القري و الفرقان و المضارب للجلوس للناس علي ارض الواقع عوضا عن الواقع الافتراضي في وسائط التواصل الاجتماعي و جلسات الانس في المقاهي و الصوالين.

اما بخصوص الجزء الثاني من الاصلاح المجتمعي و هو العدالة الاجتماعبة فبدونها لا يمكن ان نحدث اصلاحا حقيقيا و مستداما. و بهذا الشأن يجب أن تتطلع حكومة الثورة و ما يليها من حكومات أملي ان تكون حكومات منتخبة بدورها في إزالة المظلوميات التاريخية و التوزيع العادل للتنمية و التمثيل المتوازن لكل الثقافات  السودانية في اجهزة الدولة الاعلامية و تمثيل المجتمعات المختلفة تمثيلا حقيقيا يعكس اوزانها في اجهزة السلطة المركزية.

 الإصلاح الفردي:

الازمات التي ظهرت بعد الثورة من ازمات اقتصادية و انفلات امني و همجية في التعامل مع الرأي الاخر يعكس بوضوح عمق الازمة علي المستوي الفردي في مجتمعنا.

بالرغم من الوعي العالي جدا الذي ابداه جيل الثوار من الشباب و لكن التدمير الممنهج للتعليم في عهد نظام الانقاذ بالاضافة لسيادة التعليم التلقيني و ذيوع الايمان بالخرفات و الاساطير في مجتمعنا بشقيه القروي و المديني كل تلك العوامل ادت الي غياب التفكير النقدي و التحليلي مما جعل مجتمعنا فريسة سهلة للشائعات و التضليل مما اعاق استثمار طاقات الثوار الشباب و ادي الي الشحن السلبي ضد منظوماتنا الحزبية و النقابية.

الحل في ما اعتقد ان ينشر مثقفينا سياسة المنهجية في التعامل مع القضايا الوطنية و نشر ثقافة التثبت و عدم التصديق بدون دليل و ان يتحلي كتابنا و صحفيينا بأمانه القلم و ان يقدموا مصلحة الوطن علي مصلحة الفرد و الكيانات هذا علي المدي القصير. اما علي المدي الطويل يجب مراجعة السياسة التعليمية و التأهيل الجيد للمعلمين و زيادة الصرف علي التعليم و البحوث.

  • إصلاح المنظومات الحزبية:

هنالك حقيقة واضحة لايمكن تجاهلها و هي لا توجد ممارسة ديمقراطية من دون احزاب سياسية و اي محاولات لاضعاف الاحزاب السياسية او تشويهها او شيطنتها تؤدي الي هدم الديمقراطية و اعاقة استدامتها.

 و السودان يتميز عن غيره في محيطيه الافريقي و العربي بوجود تنظيمات واحزاب سياسية فاعلة ذات وجود مجتمعي و خبرات تراكمية و إرث نضالي  و ما كنا سنصل لهذا الوقع الان واقع حكومة الثورة لولا ان لدينا قوي سياسية نابت عنا في التفاوض مع المجلس العسكري و مثلت مطالبنا و رؤانا.

و لان القوي السياسية هي حجر الزاوية في عملية البناء الديمقراطي لذلك يتوجب عليها اصلاح ذاتها اولا  لتستطيع ان تقوم بدور افضل و اكبر.

فعظم قوانا السياسية تعاني من انعدام الرؤية و ضبابية البرامج و هشاشة التنظيم و عدم وضوح مصادر التمويل و انعدام الشفافية و العوامل اعلاه لعب نظام الانقاذ خلال سنواته الثلاثين دورا كبيرا في تكريسها و استدامتها كما قام ذاك النظام  و عن عمد بإضعاف القوي السياسية و شرذمتها ليقينه بانها تمثل المهدد الاكبر لبقائه و ذلك بتحشدها للجماهير و تنظيم حركتها الاحتجاجية.

الاصلاح الداخلي للقوي السياسية يتمثل من وجهة نظري في:

  • ان تقوم هذه التنظيمات بمراجعة هياكلها الداخلية بصوره تراعي فيها الديمقرااطية و الشفافية و افساح الفرص للوجوه الشابة و التنوع الثقافي و الجهوي في مراكز السلطة الفاعلة.
  • وضع برامج واقعية تراعي مصلحة و هموم السواد الاعظم من الشعب مع تفصيل آليات واضحة للتنفيذ.
  • يجب ان تكون مصادر تمويل هذه القوي واضحة للجميع.
  • يجب ان تهتم هذه القوي بتدريب افرادها و رفع كفاءتهم.
  • ان تغلب هذه القوي مصلحة الوطن علي الكسب الحزبي.

و كجزء من الاصلاح الحزبي اري من الافضل ان ينخرط الشباب في العمل السياسي التنظيمي لان ذلك يمكنهم من اكتساب مهارات قيادية و تنظيمية تفيدهم و بالتالي تفيد المجتمع و استيعاب الشباب في العمل السياسي التنظيمي سيتيح لهم و للقوي السياسية اثراء الفضاء الفكري و التوعوي.

  • اصلاح المنظومة الامنية و القوات النظامية:

السودان بحكم انه دولة عالمثالثية و رثت من الحقبة الكلونيالية دولة بوليسية تعمل منظومتها الامنية  ضد الشعب و طموحاته و تجلي ذلك في احداث عنبر جوده و احداث توريت في و قت باكر من عمر الدولة الوطنية.

بالرغم ان الفضاء اليوم مشغول بالحديث عن قوات الدعم السريع و ما اقترفته من جرائم و لكن  ينسي او يتناسي الناس ان الجيش السوداني كان الاسبق في ارتكاب الفظائع في جنوب السودان و جبال النوبة و دارفور و جنوب النيل الازرق. فالجيش قد راحت ارواح مواطنين سودانيين في تلك البقاع بنيران طيرانه و مدافعه و بنادقه و دباباته و كذلك تشوهت اجسادهم من جراء الغامه الارضية.

و الحديث عن الجيش يجب ان لا ينسينا الممارسات الاضهادية التي كانت تقوم بها الاجهزه الشرطية ضد المحتجين في كل الحقب الدكتاتورية و معاملتها الفوقية للموطنين و إساءة استخدام السلطة و القوة.

اما الحديث عن جهاز الامن فهو حديث مؤلم جدا لأن جرائم هذا الجهاز تفوق التصور. و لمن أراد الاستزاده عن جرائم هذا الجهاز سيئ السمعة فعليه بثلاثية الاستاذ فتحي الضو ( بيت العنكبوت – الخندق و الطاعون).

و لذلك يجب اصلاح هذه الاجهزه جذريا مع وضع قوانين واضحه  تحدد دورها بوضوح مع تغيير عقائدها القتالية و ابعادها الكلي عن التدخل في الشأن السياسي و الاداري للدولة و أن تكون هذه الاجهزة تحت إمرة الجهاز التنفيذي للدولة و لابد من وضع آليات عقابية  للحد من تجاوزات افرادها و ووحداتها و ان لا يعطي جهاز الامن سلطة اعلي من جمع المعلومات و تحليلها.

اتمني ان يعي قادة هذه الاجهزة بان النقد الموجه لهم ليس المقصود به اساءه بل سرد لوقائع لا يمكن دفن الرؤوس منها في الرمال و كذلك يجب ان لا يفهموا الحديث عن الهيكلة كتدخل في الصلاحيات بل هو محاولة لجعل هذه الاجهزة تتماشي مع قيم الدولة المدنية الحديثة.

أحمد العوام

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..