أليست حياتنا رخصية؟ فماذا لو فقدناها؟

عبد القادر دقاش
يقول كثير من السودانيين عندما يسيطر عليهم اليأس، من تبدل الأحوال، التي تزداد في كل يوم قسوة وشدة، وهم لا يستطيعون شراء أبسط الحاجيات التي تقوم بها الحياة..
يقولون أن كل شيء غال إلا الإنسان السوداني، فروحه رخيصة وبلا ثمن..هذا قبل أن تقوم قيامة الحرب، ولما قامت الحرب، أدرك الكثيرون منهم أن ما كانوا يقولونه هو الصواب عينه.. ولكن هل كان السودان يوما بلا حروب في دولته الحديثة التي قامت بعد الاستعمار.. الحرب كانت قائمة ومستمرة ومستعرة لكن 15 أبريل أو حرب الخرطوم كما اصطلح عليها هي الحرب التي عرفها كل السودانيين، وخبروها عن قرب. لأنها اختبرت قيمنا وأخلاقنا ووضعتنا في مواجهة أنفسنا أمام واقع نزل بنا ليعري فصاحتنا السياسية والاجتماعية التي ظللنا ندعيها من غير أن نجربها أو نختبرها أو نضعها في مواجهة الظروف، والفضائل لا تعتبر فضائل إلا حين تختبر فالذي يملك ما يكفيه لمعاشه وترفيهه وسكنه وعلاجه، لن يستطيع ان يقول انا شريف ولا أسرق.
وحده المحتاج والذي وجد فرصة ان يسرق دون ان يراه أحد ورفض السرقة هو من يستطيع ان يقول أنا شريف ولن اسرق حتى لو سرق الجميع من حولي. وقيم التسامح لا يمكن اختبارها ما لم تنزل بالناس نازلة عظيمة وكارثة كبيرة كالتي حلت بالسودانيين غداة اختلافهم في الحكم، لا في شيء غيره.. والحكم والسلطة اختبارها للناس عظيم..فكثيرون من السياسيين (الانتهازيين) لا يبالون في تقديم كل الشعب قرابين من أجل أن يحكموا أو أن يظلوا في كرسي الحكم. فالحرب قد يكون ذلك منشؤها في أغلب الأحايين طموحات ذاتية لسياسيين طائشين أو دعاة قلما يراودهم شك في حتمية دعاواهم.
أو قد تسعر وتزداد نيرانها اشتعالا..من أجل جماعات تقدم الخاص على العام، يمكنها أن تدمر البلاد بأكملها في سبيل الحفاظ على مصالح متخيلة بحسبانها حقوقا مكتسبة راسخة. فالحرب إذن ما هي إلا نتيجة للصدف التي تستغلها عبقرية شريرة، وإغلب الحروب (العبثية) ما هي رغبة قائد أو جماعة أو دولة في تعظيم مصالحهم دون أي اعتبار لمصالح الآخرين بل وبإنكار الحقوق المشروعة للآخرين في بعض الأحيان.
لذلك يرى (تولستوي) في كتابه الحرب والسلام ، إن الحرب ظاهرة غير عقلانية تتسم حوافزها بالانتهازية المطلقة. فالحروب على الدوام، تندلع لأسباب مزعومة مثل الدفاع عن المصالح الوطنية أو بث الوعي أو إعلاء كلمة الله، أو نشر الأفكار، والتي هي دوما أفكار متشددة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا خلفها.
وكذلك يرى مشعلو حرب 15 يناير منذ قيامها إنها حرب عبيثة وستقضي على الأخضر واليابس، وبالرغم من ذلك هم مستمرون فيها لأن الطموح الشخصية هي التي تقود..والأوهام الزائفة هي التي تغذى بها العقول.. فلا يوجد بين دعاة الحرب أو مشعلوها راشدا يبحث عن الأسباب الجذرية التي قادت إلى الصراع، ويسعى لمعالجتها أو مكامن النيران للحد من انفجاراتها.. بل يعمل الخطاب السياسي والإعلامي المصاحب (البليغ) المراهن على الأوهام على الدفع أكثر في أتجاه الموت والخراب والدمار.. حتى لو أدى ذلك لفناء الجميع..
نازعا الأمل في أي أتجاه في وقف الحرب أو حالة العداء المنتشر حتى في أوساط المدنيين.
الذين يأملون في أن حرب الإفناء ستعود بالسودان سيرته الأولى كما تتصوره نخب أو جماعات بعينها، يظل في ضلال القديم، فالسودان ليس استثناء بين الأمم في التاريخ القديم والحديث سينهار إن تضافرت عليه عوامل الانهيار، وسيتمزق إن تواطأت عليه نوازع التمزق.. ولا شيء يجعله يصمد بالأماني والأحلام أو بقوة السلاح، فالنصر بالسلام خير من النصر بالحسام..
و الذي يحمل السودانيين على التأسي والتوجع، أكثر بكثير مما يحدو بهم للتهليل والاستطالة والشدو بأهازيج النصر. ومن المؤسف أن القيادة السودنية لا تريد أن تسلك للسلام طريقا، ولا بديل لها إلا الطريق الذي يفضي لمزيد من المذابح، وتدمير الإنسان، وبيئته. لأنه لا قيمة للأرواح..
ولترق كل الدماء.