تحديات التنمية الزراعية المستدامة في السودان (1-3)

صارت قضية تنمية القطاع الزراعي من أهم القضايا المطروحة علي الأجندة السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والتنموية التي تشغل جميع الحكومات، هيئات الامم المتحدة، مؤسسات التنمية المحلية، والعالمية ومنظمات المجتمع المدني في جميع أنحاء العالم وذلك لارتباط القضية الوثيق بمكافحة الجوع، المرض وتخفيف الفقر والمحافظة علي البيئة وبالتالي تحسين المستوي المعيشي لغالبية الفقراء في العالم وهذا يمثل جل ماتضمنته أهداف التنمية المستدامة التي تبنتها قمة التنمية العالمية التي عقدت بمقر الامم المتحدة بنيويورك في الفترة من 25-27 سبتمبر 2015 تحت شعار “تحويل عالمنا من أجل الناس والكوكب”. وذلك بحضور 150 رئيس دولة. و قد أطلق على الخطة التي وافقت عليها 193 دولة عضوا بالأمم المتحدة ? تحويل عالمنا : خطة التنمية المستدامة 2030″ و التي تضم 17 هدفا للتنمية المستدامة و 169 غاية لمتابعة و قياس تنفيذها. وتعتبر هذه الأهداف الإصدارة الثانية لأهداف الالفية الثمانية التي تبنتها الامم المتحدة في الفترة من 2000 وحتي 2015.
وعلي المستوي المحلي لم يغب موضوع التنمية الزراعية يوماً ما عن الاهتمام العام منذ فجر الإستقلال وإلي يومنا هذا ولكن فقط في الشعارات السياسية وقاعات الدراسة والمؤتمرات العلمية. فقد ظلت شعارات مثل السودان سلة غذاء العالم، ونأكل مما نزرع والنهضة الزراعية والنفره الزراعية -نصاً أو معناً – متداولة لدي جميع الحكومات التي تعاقبت علي السودان تقريباً. ولكن من الناحية التخطيطية والتنظيمية والتنفيذية لم يتم تحقيق اي شيء ملموس في سبيل تنمية وتطوير القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني.
وبحكم دراستي للزراعة وتخصصي في الاقتصاد الزراعي و التنمية الاقتصادية الزراعية، ظللت اتساءل لسنوات عديدة: لماذا عجزت جميع الحكومات التي تعاقبت علي حكم السودان في إحداث تنمية زراعية حقيقية مستدامة؟ وهل عدم الإستقرار السياسي حال دون تحقيق ذلك؟ أم أن الفشل في احداث تنمية زراعية حقيقية مستدامة ادي الي عدم الاستقرار السياسي؟
وهل الحصار الأمريكي الغربي هو المسئؤل عن تخلف الاقتصاد الزراعي؟ أم ان غياب الإرادة السياسية هو المسئؤل عن ذلك؟
أم أن الأمر برمته يعزي الي غياب الرؤية الموضوعية حول تحقيق التنمية الزراعية المرجوه؟
أعتقد أن غياب الرؤية التخطيطية، التنظيمية و التنفيذية الكاملة لدي جميع الأنظمة التي تعاقبت علي حكم السودان ادي الي عجزها عن تحقيق التنمية الزراعية المستدامة.
فإذا اردنا أن نحلل الوضع الراهن للقطاع الزراعي وذلك بإستخدام اسلوب تحديد نقاط القوة، الضعف، التحديات والفرص المتاحة، فنجد أن نقاط قوة القطاع الزراعي تتمثل في الأراضي الواسعة الصالحة للزراعة وتوفر مياه الري من نهر النيل وروافده والأمطار الموسمية التي تهطل بكميات مقدرة تتراوح مابين 200-900 ملم. وكذلك توفر المراعي الطبيعية، الأمر الذي ادي الي تمتع السودان بميزات نسبية في إنتاج كثير من المحاصيل الحقلية والبستانية و الثروة الحيوانية.
أما فيما يتعلق بنقاط الضعف فيمكن حصرها في الآتي:
1/ الثنائية: فنجد أنّ القطاع الزراعي يتميز بوجود قطاع صغير حديث نسبياً علي محازاة نهر النيل وبعض مشاريع الزراعة الآلية في القضارف وغيرها بجانب قطاع موغل في التقليدية يشمل جميع مناطق السودان الاخري. وهذا يرجع الي إنشغال جميع الحكومات المتعاقبة علي حكم السودان بإدارة المشاريع الزراعية الكبيرة مثل مشروع الجزيرة وشركات السكر واهمال الغالبية العظمي من صغار المزراعين مما نتج عنه تاثير محدود جداً علي التنمية الزراعية المستدامة. لذلك علي الحكومة التخلي تماماً عن إدارة جميع المشاريع الزراعية الكبيرة وعليها ايضاً القيام بخصخصة جميع شركات السكر والتفرغ الي تطوير البنية التحتية وتوفير الخدمات الزراعية وتطوير صغار المزراعين الذين لا يمكن تحقيق اي تنمية اقتصادية زراعية حقيقية مستدامة بدونهم، بالإضافة الي ذلك توفير الحوافز الاستثمارية للقطاع الخاص ورؤوس الأموال الأجنبية لادارة وتطوير المشاريع الزراعية الكبيرة.
2/ ضعف البنى التحتية والخدمات الإجتماعية من طرق، كهرباء، مياه شرب، تعليم، اسكان وخاصة في المناطق الريفية نتج عنه هجر كثير من الريفيين لقراهم وتوجههم صوب المدن الكبيرة بحثاً عن الخدمات الأساسية وفرص العمل مما تسبب في أزمة سكن حادة في المدن الكبيرة انعكس في ظهور الاحياء العشوائية و الغلاء الفاحش لاسعار العقارات والايجارات في المدن.
3/ انتشار الأمية وضعف الوعي والمهارات وانتشار الفقر في المناطق الريفية ادي الي تخلف وسائل الإنتاج وتدني الإنتاجية وكذلك تكوين هياكل وابنية إجتماعية غير قادرة علي التجديد والتطوير والمبادرة.
4/ تدني مستوي الخدمات الزراعية من بحوث وارشاد زراعي وتمويل وغيرها.
5/ ضعف المؤسسات الحكومية والهيئات ذات الصلة بالقطاع الزراعي كوزارة الزراعة وكليات الزراعة والبحوث الزراعية وضعف الامكانات و التجهيزات المطلوبة وغياب الرؤية التخطيطية، التنظيمية والضبط المؤسسي.
6/ عدم تقنين نظم حيازة الأراضي الزراعية: من المعروف ان جل الاراضي الزراعية في السودان غير مسجلة وبالتالي حسب قانون الاراضي تعتبر اراضي حكومية. هذا الوضع القانوني للاراضي الزراعية يعتبر من المعوقات الرئيسة التي تواجه تنمية وتطوير القطاع الزراعي. ويزيد الأمر تعقيداً أن هنالك عدد من القبائل الرعوية ليس لهم حيازات من الأراضي الأمر الذي تسبب في صراع بين الراعي والمزارع حول استخدامات وحيازة الأراضي ومصادر المياه خاصة في مناطق دارفور.
7/ غياب سياسات اقتصادية زراعية فاعلة لاحداث تغيرات هيكلية جذرية في القطاع الزراعي.
8/ تذبذب الأمطار، الجفاف، التصحر والتغير المناخي العالمي وغياب القوانين والبرامج التي تهدف إلي الي حماية البيئة والمحافظة علي الغطاء النباتي نتج عنه تدهور الاراضي الزراعية وهشاشة الوضع المعيشي للسكان في مناطق الزراعة المطرية.
9/ عدم الاستقرار السياسي والصراعات الدائرة وكذلك الحصار الاقتصادي وعوامل السياسة الخارجية والعلاقات الدولية غير الايجابية كلها عوامل تلقي بظلالها السالبة بصورة مباشرة أو غير مباشرة علي القطاع الزراعي.
10/ عوامل اجتماعية ثقافية سلبية تجاه الزراعة: وهذه تشمل النظرة السالبة للزراعة والريف لدي قطاع كبير من الشعب السوداني بما فيهم النخب المتعلمة من مفكرين ومثقفين وسياسيين. أذكر عندما تم قبولي في الجامعة سالني شخص من الذين يتبوءون مناصب مرموقة في مؤسسات الدولة عن الكلية التي قبلت فيها، فأجبته بانني تم قبولي في كلية الزراعة، فوبخني بأشد العبارات وقال لي كيف لطالب مميز اكاديمياً مثلك بأن يدرس الزراعة، كان الأفضل لك أن تدرس الطب أو الهندسة. وأيضاً أذكر عندما كنت اعمل في شركة زراعية مرموقة في احدي اقسام المراجعة والجودة، وكان العاملون في ذلك القسم يتمتعون بأجور افضل مقارنة بنظرائهم في الاقسام الأخري باستثناء شخصي فتم منحي مرتب اقل أسوة بمرتبات العاملين بالقسم الزراعي. وعندما طالبت بمساواتي مع زملائي الآخرين بالقسم ليبقي الفارق في الاجور هو فارق الخبرات والمهارات، قال لي رئيس القسم اذا لم تقبل بهذا الوضع فعليك الذهاب الي وزارة الزراعة ليمنحوك مرتب قدره 300 جنيه وليس لك اي خيار آخر، كان ذلك في العام 2010. فأدت مثل هذه الافكار والانطباعات السالبة عن الزراعة بالإضافة الي عوامل أخري مثل محدودية سوق العمل الزراعي الي ضعف المنافسة وتدني نسبة القبول في كليات الزراعة، واصبحت كليات الزراعة تحتل الرغبات الاخيرة للطلاب العلميين المتقدمين لمؤسسات التعليم العالي.
وفي المقال القادم سنتحدث عن التحديات والفرص المتاحة للقطاع الزراعي السوداني.
[email][email protected][/email]