مقالات وآراء سياسية

التأخر عن ركب تاريخ الذهنيات من نتائجه حرب البرهان العبثية

طاهر عمر

حاولت جاهدا أن ألفت بال النخب السودانية الى أن مشهد الفكر في السودان حالته متأخرة جدا وأن هناك عمل يحتاج لمجهود جبار لكي يرى النور لأن هناك تأخر كبير وقد إمتد على مدى فترة زمنية تكاد تقارب القرن من الزمن. في عام 1929م في زمن الكساد الاقتصادي العظيم أيقنت النخب في العالم المتقدم بأن فلسفة التاريخ التقليدية في آخر أنفاسها وأن فلسفة التاريخ الحديثة قد بدأت ترسل أول طلائع أشعتها.
هذا يتزامن مع تكون طلائع الخريجيين في السودان في أنديتهم ولاحقا في مؤتمر الخريجيين والمؤسف أن مستوى أتباع مؤتمر الخريجيين لم يكن على قدر من الوعي يلتقط به ما يدور من لحظات إنقلاب في الزمان حيث يتهئ المجتمع لميلاد ليبرالية حديثة لتحل محل ليبرالية تقليدية لأسباب كثيرة وهي أن طلائع الخريجيين من السودانيين ورغم تعليمهم على يد المستعمر وبداية التعليم الحديث إلا أنهم لم يبارحوا إمكانيات إدراك عقل الخلوة الذي يعمل بروح المجتمعات التقليدية.
هذه واحدة من المعوقات أي أن تبداء نخب السودان مع الشعوب الحية فترة بزوغ أشعة فكر الليبرالية الحديثة وبالتالي تسير مع العالم بعد نيل الإستقلال اترسيخ تحولات المفاهيم الهائلة فيما يتعلق بفكرة الدولة كمفهوم حديث وكذلك مفهوم السلطة كمفهوم حديث.
عام 1929م ظهرت مدرسة الحوليات في فرنسا وقضت على فكر المؤرخ التقليدي حيث فتحت الباب لدراسة تاريخ المجتمع ودراسة التاريخ الاقتصادي للشعوب وعبر أجيالها ما زالت تساهم في تطوير الفكر وتلاحق التحول في المفاهيم إلا أننا في السودان ما زال المؤرخ التقليدي محبوس في وثيقته المقدسة لم يستطع أن يقدم مؤرخ يستطيع أن يقدم تحليل يساعد المجتمع السوداني في شرح فكرة تاريخ الذهنيات والتغلب على تاريخ الخوف.
في وقت نجد أن مدرسة الحوليات بعد عقدين من الزمن وجدت نفسها أمام تيار جديد بفكر يخلب الألباب وقد إشتبك حتى مع أفكار مدرسة الحوليات التي لم تبدأ طلائع أتباع مؤتمر الخريجيين معها ولم يحاول المؤرخ التقليدي السوداني نقل أفكارها حتى اللحظة.

في تلك الحقبة اذا بفكر كلود ليفي أشتروس في بنيوته يظهر ويسحب البساط من أهمية دراسة تاريخ المجتمع وتاريخ الاقتصاد عند مدرسة الحوليات ويقدم تحليل جديد لفكرة تاريخ الذهنيات وتاريخ الخوف وأيضا لم نجد لها أثر في دراسات ومقاربات النخب السودانية حتى اللحظة.
أعني وبإختصار أي أني أريد أن أقول بأن نخبنا بعيدة من عقل النخب الراهنة في الشعوب الحية بسبب غيابها عن فكر مدرسة الحوليات وكذلك بفكر بنيوية كلود ليفي أشتروس المشتبك مع فكر مدرسة الحوليات ليزيحه من المقدمة ويحل مكانه في محاولاته تقديم ما يفسر ظاهرة المجتمع البشري ونجده قد حاول في حقول اللغة والموسيقى والأسطورة.
وبالتالي يصبح الفكر الديني في نظر كلود ليفي أشتروس ذو طموح فائق إلا أنه فاشل في جلب سلام العالم عكس فاعلية الأسطورة والموسيقى في إلغاءها لماكنة الزمن وعليه لم يعد للدين أي دين لعب دور بنيوي في حقول السياسة والاجتماع والاقتصاد.
وهنا يتضح لك خواء النخب السودانية التي ما زالت تحاول خلق دور بنيوي للدين وقد رأينا محاولاتهم التي لم تبارح فكرة أن الحركة الاسلامية السودانية لا يمكن تجاوزها في سبيل وجود إستقرار سياسي في السودان ونجدهم في الإتفاق الإطاري يفسحون المجال لحزب الترابي وأنصار السنة وفرع من الختمية وتجد مقولات كثير من السياسين وهم يروجون لفكرة أن الحركة الاسلامية السودانية يجب أن تكون جزء من الحل كما كان يهرّج ياسر عرمان قبل إنقلاب البرهان الفاشل و نحن نسأله الآن بعد حرب البرهان العبثية هل ما زال على رأيه بأن الفكر الديني هو جزء من الحل؟.
لو كان ياسر عرمان وأمثاله على إطلاع على التحول الهائل في المفاهيم لما تكرم أن يفسح المجال للفكر الديني أي دين بأن يكون له دور بنيوي على أصعدة السياسة والاجتماع والاقتصاد وهنا أخذنا ياسر عرمان من بين النخب كسياسي فصيح بالمعنى الذي يقصده الدكتور منصور خالد للفصيح الفاشل من بين النخب السودانية التي أدمنت الفشل لنوضح كيف كانت النخب السودانية متأخرة عن فهم تاريخ الذهنيات وتاريخ الخوف والنتيجة هذه النكسة التي قد تجسدت في حرب عبثية.
من هنا دعوتنا للنخب السودانية بأن تعي أن نصاب الوعي عندها لم يكتمل ولهذا قد أدمنت الفشل وكله بسبب أن أجيال من النخب متراكمة فوق بعضها منذ أيام أتباع مؤتمر الخريجيين ترث ضعف مناهجها وغير قادرة على تجاوز العجز وبلوغ العقلانية وعاجزة أن تفهم بأن الخطاب الديني لأي دين لم يعد قادر لجلب سلام المجتمع ولم يعد هو المفسر لظاهرة المجتمع البشري وعلى الدوام أن الفكر الديني فكر طموح إلا أنه غير قادر على تفسير كيف تتطابق الأفكار لتفسر أن الانسان جزء من الطبيعة.
وبما أن الانسان جزء من الطبيعة يصير عقله بشكل بنيوي متطابق مع الطبيعة وبالتالي نجده قادر على تقديم أسطورة كما كان سابق لتفسير ظاهرة المجتمع أما عند المجتمعات الحديثة فإن التاريخ يلعب دور الأسطورة الأخيرة لتفسير ظاهرة المجتمع البشري كما نجده عند كلود ليفي اشتروس و نجده في فن القراءة عند كلود لوفرت وغيرهم كثر من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والاقتصاديين والمؤرخيين غير التقليديين.
في بداية الخمسينيات كانت بداية إشتباك كلود ليفي أشتروس مع فكر مدرسة الحوليات ومقارباته للبرهنة على تاريخ الذهنيات وتاريخ الخوف ولكن بمدخل مختلف عن مقاربات مدرسة الحوليات لأن كلود ليفي أشتروس قد بحث عنهما بأبعاد مختلفة في حقول الخوف والموت والحب والأسرة حيث إنفتح حقله على الانثروبولجيا التاريخية.

كما قلنا في بداية الخمسينيات كانت مقاربات كلود ليفي إشتروس قد أخافت كثير من المؤرخيين إلا أنه قد أكد بأن الحرب سوف لا تقع بين التاريخ والانثروبولوجيا وقد كانت مقارباته هائلة في توضيح أن العمل اللا شعوري للروح يوضح الوحدة النفسية والعاطفية للإنسانية رغم تباين الثقافات واللغات ففي تباين الثقافت واللغات تختبئ وحدة الانسانية النفسية والعاطفية وهذا هو البعد الغائب عن النخب السودانية.
وهنا يلزمنا توضيح كيف هزم كلود ليفي اشتروس فكر ماركسية سارتر ووضّح أن سارتر بسبب جهله بعلم الاجتماع قد حبس نفسه في خانة المدافعيين عن الشيوعية كنظام شمولي . وكذلك يلزمنا توضيح أن التاريخ بمعناه عند كلود ليفي اشتروس يختلف عن فكرته عند المؤرخ السوداني التقليدي
وغياب مثل فكر كلود ليفي اشتروس من مشهد الفكر في السودان نجده قد خلف لنا مؤرخيين تقليديين كان كل همهم الدفاع عن الهويات الخائفة التي قد أورثتنا أدب الهويات القاتلة ونخب قد أفنت زهرة عمرها في الدفاع عن الهويات بدلا عن الدفاع عن الحريات و بالتالي في ظل كساد المؤرخ التقليدي السوداني يفوتنا فكر تنام تحت ظلاله فكرة النشؤ و الإرتقاء حيث تجاوزت البشرية كل فكر يرتكز على العرق أو الدين أي دين.
على أي حال سوف تنتهي حرب البرهان العبثية ضد حميدتي وهو صنيعة البرهان عندما كان خادم للحركة الاسلامية وحينها ستدرك النخب أن كسادها الفكري وتبعيتهم للمرشد والامام ومولانا والاستاذ عند الشيوعي السوداني هو وقود الحرب العبثية الدائرة الآن بين حميدتي والبرهان بل سببها لأن عجزهم عن بلوغ مستوى العقلانية جعلهم كأنهم من ركاب سفينة الحمقى في أدبيات ميشيل فوكو.
إلا أن سفينة الحمقى عند أدبيات ميشيل فوكو في بحثه عن مفهوم السلطة قد رست وسفينة الحمقى وجل راكبيها من النخب السودانية الفاشلة لم ترسى بعد على شاطئ.
والسبب أن المجتمع السوداني قد فقد ديناميكياته التي تساعده في السير للحاق بمواكب البشرية بسبب عجز نخبه عبر سبعة عقود قد أعقبت الاستقلال وهي عاجزة أن تدرك أن العالم تسوقه تحولات هائلة في المفاهيم ونخبنا الفاشلة تريد مقاربة كل التحولات بفكر قد أكل عليه الدهر وشرب وهو فكر الخنوع والتبعية للمرشد ومولانا والامام والاستاذ الشيوعي وهذه الحالة لا تنتج مفكر عفوي وتلقائي ومبتكر.
وجب التنبيه أن سفينة الحمقى عند ميشيل فوكو كانت كتفسير لبحثه لكيفية السيطرة وبسط السلطة عبر التاريخ والهيمنة على الفرد من قبل المجتمع وكان ضحاياها من الحمقى والمجانيين ومن أصابهم الجذام حيث كان يسلم المجانيين والحمقاء للبحّار لإقصاءهم من المدن وفي كثير من الأحيان يتم قتلهم وإغراقهم من قبل البحاريين في البحار وكذلك الحال مع زورق المجنونات.
على أي حال يظهر أن النخب السودانية الفاشلة ما زالت في ذلك التاريخ البعيد حيث كان مفهوم السلطة و السيطرة والهيمنة يصل الى مستوى إغراق الحمقى والمجانيين والمجذوم ولكن بعدها تغير مفهوم السلطة وقد أصبحت سفينة الحمقى الراسية اليوم هي المستشفى حيث يعالج المجنون والمجذوم بدلا من إغراقه في البحار كما كان سابقا وهنا يظهر كيف تغير وتبدل مفهوم السلطة في مقاربات ميشيل فوكو فهل فهمت النخب السودانية تحول مفهوم السلطة الآن؟ .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..