الروائي السوداني الشاب مهند الدابي : أنا مقهور، وفضاء الابداع بالسودان محبط

بوعي حاد يليق بأديب يستدعى مهند رجب الدابي شخوصه الغنية بالتفاصيل ليدوِّن أعماله مجترعاً عذابات مخاض الكلمات لحظة بلحظة يعالج أدواته الإبداعية في صبر وجلد كما يعالج الملَّاح قاربه في بحر مائج، موظِفاً أساليب الحكي التقليدية من حكم وأمثال وأساطير وحواديت شعبية وبعضاً من التحليل النفسي ليرسم لوحة المواجهة بين أزمنة متغيِّرة في عوالم لا تهدأ ولا تزاورها السكون .
وإذ يتمكن مهند بوعي شديد التقاط التحولات العميقة في المجتمع يصوِّر شخوصه بطريقة تزاوج بين ديستوفسكي في سبر أغوار شخوصه وكافكا في مصائرهم الموغلة في السوداوية والقتامة. مهند درس تقنية المعلومات لكنه احتسب سني دراسته تلك لله، راضياً بحرفة الأدب التي وسوست له نفسه الأمَّارة بالإبداع.
(التيار) جلست إليه في الشارقة بفعاليات معرض الكتاب الدولي وكان هذا الحوار :
أجراه بالشارقة : خالد فتحي
من هو مهند رجب الدابي؟.
هو رجلٌ أتى من تواريخ قديمة، مليئة بالإحباط والقهر، يحمل قنديلاً مُضيئاً آملاً في تصويب ما قُدرْ له أنّ يكون خطأ.
ثمَّ صعوبات تلاقي كل مبدع في بداياته ماذا وجدت أنت من صعوبات؟.
الصعوبات دائماً ما تحيط بالكاتب، ودائماً ما تُسهم في عزله خصوصاً في السودان، المكان الذي يغلق متنفسات الوعي بإغلاقها ويفسد المعرفة بترصدها وترقبها جيداً، فإغلاق اتحاد الكتاب السودانيين مثالاً للصعوبات التي يواجهها الكاتب السوداني بالإضافة إلى الصراع الفكري الكبير والمفارقة بين القائمين على أمر الشأن الثقافي في البلاد والآخرون الذي هم عصب البنية المعرفية الواعية بأهمية الآخر في الحياة. فالصعوبات الفكرية أكثر تعقيداً من الصعوبات التقليدية حيث يضطر الكاتب دائماً لمغادرة الوطن مليء بالحزن آملاً في طرائق أفضل لحل الأزمة التي في الغالب تبعد الكاتب حتى الأبد عن قضيته وهمومه الإنسانية.
فزت بجائزة الطيب صالح للقصة القصيرة إلى أي مدى أضافت لك؟.
نافذة لفضاء أرحب، وقدمتني عبر “الظل” إلى النور.
هل ستدخل بوكر العام القادم؟.
ستدخل رواية “السرايا الصخرية” وهي سرد تأريخي يصطحب معه تجربة إنسانية غارقة في المحلية، تحكي عن تأريخ مجهول في السودان وعن حِقبة لابد لها وأنّ تُنير ما شمله الجهل والتجاهل وهي معالجة لأزمان طوى عليها الزمان صفحاته.. وهي رواية خارجة عن المألوف تماماً.
لنتكيء قليلاً بـ”السرايا الصخرية”؟.
السرايا الصخرية هي التأريخ المجهول عمداً عن بقاع السودان السوداوية، وهي الخزي الذي لم يذكره التأريخ خوفاً منه وخوفاً عليه، وهي سرد سيغيِّر نظرتنا جميعاً لتأريخنا “المثقوب” في المنتصف دون معالم تفضي إلى معرفة حقيقية حول ما كان يحدث في السودان خارج إطار إدارة المستعمرات التي تعمد عبر دوائر معارفها تجاهل الكثير مما كان يحدث، وتجاهل الفضائح الإنسانية التي حدثت وراح ضحيتها الكثير من الأبرياء الذين كان ذنبهم الوحيد هو أنهم بلا وجيع، وبلا كيان يكترث لأمرهم. الرواية محاولة لتصويب التأريخ عبر التطرق لكابوسية الاستعمار الذي استخدم الطفل السوداني كــ “فأر تجارب” كما هي الحال عندما يواجه المستبد المجهول، هي حالة سردية تنتهي بالعديد من المفاجآت التي يجهلها العالم. واعتقد أن ما جمعته من وثائق وما أجريته من دراسات كافي جداً لإدانة جهات كثيرة، وهنا تكمن أهمية الأعمال السردية التأريخية، ففي اعتقادي أن أهميتها تكمن في نبش ما تم دفنه وتعمد الجميع نسيانه كأنهم يدفنون طفلاً مجهول النسب مصاباً بلعنة التخلف الفاضحة.
أنت في الشارقة تتغشى معرض كتابها الباذخ بماذا تحلم للخرطوم الراكدة ثقافياً؟.
الوطن في أعمالي يحلمُ ويحلمُ ويحلمُ، يحلم بالكثير مما يستحقه، في بداية ما، قُدرْ له أن يكون حُلماً هو واقعٌ مُعافى وسَوي يظلله سقف معرفي شاهق، وهو تحقيق لنبوءة المثقف السوداني الحالم بواقع أقل عهراً.
“سحرة الضفاف” أظنها أيقونك الأغلى حتى الآن هل سبقتها تجارب ؟.
“ملوك الهمج” وهي رواية تحكي عن تأريخ مملكة سنار وأخر 4 أيام قبيل سقوط مملكة سنار في يد المستعمر. وتناقش قضية الحاكم البربري الذي يقتتل مع أخوته من أجل مجد لن يطوله ولا يستحقه. أطرق على الشكل القديم للبرغماتية، هناك أيضاً محاولات أخرى روائية وقصصية وشعرية أخرى.
سنار حاضرة بطريقة لافتة في الفضاء المكاني برواياتك؟
بعيداً عن حبي لسنار، فسنار عوالم زاخرة وثرية بفضاءات غامضة وموحية، كما هي أيضاً غنية بكل ما هو داهش ولتفرد مكانة سنار التأريخية وتميز عوالمها فهي تخترق في الكثير من الأوقات حالاتي الكتابية كما أن السودان الكبير يجد مني نفس الاهتمام، فكل المدن حاضرة في كتاباتي إلا أنّ سنار مدينة لها خصوصيتها الدامغة.
أين أنت من سنار عاصمة الثقافة الإسلامية 2017؟
لا تعليق .!!!!
كواليس “سحرة الضفاف” كيف ومتى كتبت؟.
“من لا يوحيّ” كُتبت في أغسطس من العام الماضي، وهي حالة تمرد كامل وتقمص كاد أنّ يكون مَرَضي، لإخراج هذا العمل بكل ما هو يلامس الشفيف المُحتلب من سمو الكتابة.
علمنا أن الاسم بديل وليس اسمها الأصلي؟.
من كان يصدق بأن دور النشر سيحاكمون العمل ويقدمونه لمحاكمة و هم يجهلون أن الأدب لا يمكن الحكم عليه سوى من منظور الأدب نفسه، فالأدب ليس له سقف جمالي أو أخلاقي أو كياني، الاسم الأصلي للعمل كان “من لا يوحيّ؟” وقد رُفض من قِبل عُدة ناشرين، كما تم حذف بعض أجزاء الرواية.
كيف توصلت إلى الاسم الجديد؟.
الكثير من المحاولات، الكثير من الأمل في التوصل إلى اسم، فقط اسم.. حيث فشل جميع من قرأ العمل قبيل نشره على مساعدتي حتى بمجرد اقتراح، فالعمل كان يطرح فكرة للإيحاء تصطحب في جوفها كل شيء، الاسم الجديد أتى فجأة “سَحَرةْ الضفّاف”. أفقت من النوم ساعتها، لاعتمده صباح اليوم التالي وهو آخر يوم للحاق بتقديم الرواية للحاق بمعرض الخرطوم الدولي للكتاب الذي أصررت على المشاركة فيه وخرج دون طموحنا.
عدلت في الرواية؟.
الكثير من التعديل غير الملحوظ، ففكرة الإيحاء بكل ما حاولتْ جمعه حولها، وكل الدراسات التي حضرتها حولها لم تشفع لها لتخرج للقراء دون التوجس من تخوف الناشرين وترقب الرقيب.
تفاصيل الرفض من الناشرين اللبناني والمصري؟.
الناشر اللبناني رفض العمل أولاً بسبب التسمية، بينما فضَّل سحب بعض مما رآه سيحرم الرواية لاحقاً من المشاركة في معارض الخليج والسودان، واعتذرت له فيما بعد لعدم تمكنه من المشاركة في معرض الخرطوم الدولي للكتاب والذي كنت مصرّ على أن أوجد به، أما الناشر المصري فتخوف بنفس أسباب الناشر الآخر وخوف إضافي من الرقيب، اضطررت لتغيير الاسم وحذف بعض الأجزاء .
ماهي الأجزاء التي اضطررت لحذفها ؟.
الكثير من الأفكار حول نظرية وفن الإيحاء، وبعض ما يُسمى “سيكولوجية الرجل السوداني في الجنس” وبعض الطرق على التابوهات المعروفة وهو تناول فكري فلسفي بحت لكل ما ذكرته.
كيف واجهت ملاحظات الحذف والرفض وكيف شعرت ومقص الرقيب يسترسل عميقاً في لحم الرواية الحي ؟.
كأن يقتلع أحد أعضائك بينما أنت لا تزال حياً.. للأسف قدمت بعض التنازلات، ولكن ما أسعدني هو أنّ العديدون استطاعوا فهمي والتجاوب مع أفكاري وإيحائي، كما أسعدني المثقف السوداني القاريء الفريد والذي يختلف كثيراً عن القراء الآخرين.
أكثر شخصية أتعبتك في تعقب منحنياتها والقبض على تفاصيلها؟.
مريم حسب الله تلك الشخصية المعقدة والتي تأتي صعوبتها من صعوبة الواقع نفسه.
لماذا؟.
مريم شخصية صعبة، معقدة، حالة فريدة ونموذج علينا جميعاً التعرف عليه، كي لا ننسى أن مريم تشبه الكثير مما لا نستطيع الحديث عنه. أو عنهم، ومريم بنيتها النفسية شكلها المجتمع الذي تحاول التصالح معه والذي بدوره لا يتصالح معها أبداً. وهو من المؤشرات الخطيرة التي تستشرق تهتك النسيج الاجتماعي في السودان.
اخترقت تابوهات الجنس والدين بقوة ؟.
كما هو الحال.. في الواقع الذي لا نراه، هي أشياء لا يمكن الهرب منها أبداً.
ربما يأخذ البعض أن الرواية غارقة في استخدام أجواء الحلم والإيحاء والأساطير والتحليل النفسي؟.
والكثير غير الملحوظ .. والملغز، العمل بشكل إجمالي استهلكني جداً، كل لحظة في فترة الكتابة كانت لحظة كتابة وهي أن كانت تشابه شيء فهي تقترب إلى تقاسم روحك وعمرك مع آخرين قُدر لهم أن يكونوا موجودين، يأخذون منك ويواجهون الحياة منفردين. وهي رؤيتي للعمل الروائي المتكامل والذي يجب عليه أن يكون متقدماً وباهراً وموغلاً في كل شيء.
قلت إن الأسماء أو عناوين أعمالك تتعبك كثيراً؟.
صدقت؛ أنا دوَّنت “سحرة الضفاف” في 24 يوماً ثم وضعت القلم بينما استغرق البحث عن الاسم خمسة أشهر كاملة حتى خط قلمي على اسم” من لا يوحي؟” وعند اعتراض الناشر عليه لاعتبارات سردتها آنفاً انفقت ستة أشهر حتى عثرت على الاسم الذي صدرت به الرواية “سحرة الضفاف”.
كيف ترى فضاء الإبداع في السودان؟.
محبط رغم جدية المحاولات، وإبداع الكاتب السوداني أصبح يتخطى الحدود ويتعدى اللغة ويجد إقبال عظيم من مختلف القراء وهو منتشر بالخارج أكثر من انتشاره في سماوات السودان المغلقة وغير الآمنة. إذا لم تعد المنابر كما كانت، ولم تُفك دائرة الخناق حول المنتوج الفكري والأدبي في السودان سنكون موعودون بمستقبل باهر العتمة، حالك المعالم، مرهق للجميع.
هل هناك نافذة أمل للقادمين؟.
دائماً هناك نافذة، ولكن لست أعلم أن كانت تعني “الأمل” !.