دمعة «معاوية»

ليس هناك خطأ في العنوان. المقصود فعلاً دمعة معاوية وليس شعرة معاوية، الأخيرة هي شعرة معاوية بن أبي سفيان، التي شدها وأرخاها نحو أربعين عاماً، ولم تنقطع بينه وبين أهل الشام المودة، أما الثانية فهي دمعة الزميل معاوية ياسين، التي ألهبت حِسنا العربي، وهو يذرفها أثناء اجتماع التحرير.

يوم الاثنين الماضي وأثناء الاجتماع اليومي للتحرير، كنا نتناقش حول مانشيت «الحياة» كان المانشيت بعنوان (استفتاء جنوب السودان: حفلة «عرس» احتفاء بـ«طلاق»)، وأشاد جميع الزملاء بجمال العنوان والحرفية العالية التي كتب بها، وفي هذه الأثناء وبينما نحن نتلمس أخطاءنا في الاجتماع لنتفادها غداً، انفجر الزميل معاوية ياسين، الذي ترك السودان منذ نحو ثلاثة عقود بنوبة بكاء، وهو يتمتم ببعض الكلمات عن الوطن، وقال بما معناه: «تتحدثون عن عنوان… وأنا أخسر وطناً».

دمعة معاوية وكلماته غير المفهومة فجّرتا كثيراً من الأشياء بداخلي، كان الوطن غائباً فحضر. كانت الدموع بعيدة، فاقتربت من الأهداب، خصوصاً أنني جار للزميل معاوية في غرفة الاجتماعات. معاوية لم يكن يبكي وطناً مزقه الحكام، الذين استولوا على السلطة في غفلة من الشعب فحسب، بل كان يبكي شعوباً لم يعد يعنيها أن يحتل هذا البلد أو يقسم ذاك القطر أو أن يتراجع دور الكنانة. كان يبكي الشعور القومي لدى الشعوب العربية، فهو (الزميل معاوية) ابن ذلك الجيل الذي ينام بقرب المذياع، ليعرف آخر أخبار الفدائيين، وينتشي وهو يسمع عن عملية فدائية في اللد أو بالقرب من حيفا. هو ابن ذلك الجيل الذي مزق كتبه وأوراقه، وحطم أقلامه في مدرجات جامعة الخرطوم، وهو يسمع أخبار العملية الفدائية التي قامت بها دلال المغربي سنة 1978 داخل إسرائيل، وانتشى أكثر وهو يرى مجرم الحرب ايهود باراك يجر دلال المغربي من شعرها بعد أن استشهدت. معاوية ابن جيله ومن حقه أن يبكي وطنه، الذي استولت عليه حفنة من العسكر، لتبيعه لاحقاً إلى الانفصاليين. أجمل ما في معاوية أنه لا يلوم الانفصاليين، بل يحمّل أهله الشماليين خطيئة الانفصال، وهذه لعمري قمة العقل والتفكير العقلاني.

صحيح أن معاوية يعيش خارج السودان منذ نحو ثلاثة عقود، وهو مثله مثل كثير من السودانيين والعرب، حاصل على جنسية بلد محترم، إلا أن السودان بقي الوطن الذي أجبر معاوية على البكاء، وتلك هي القيمة المثلى للمواطنة في زمن بات بعض الحكام العرب يوزّع صكوك المواطنة والغفران على مواطنيه، وينعت كل من يعيش في المنفى بـ«الخائن» و«العميل» و«المأجور». المواطنة والانتماء الوطني فعل عفوي كامن لا يتحرر إلا في الملمات، عندما يصبح الوطن في مهب الريح، والعرب قالت في أمثالها: «صديقك من صدقك لا من صدقك».

من معاوية إلى الشاب التونسي محمد البوعزيزي، هذا الشاب الذي فجّر غضب الشعب التونسي، عندما أقدم على إحراق نفسه أمام مقر ولاية «سيدي بوزيد» في 17 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، احتجاجاً على مصادرة السلطات البلدية عربة كان يبيع عليها الخضار.

محمد شاب جامعي عاطل عن العمل، حاول أن يعين أسرته من خلال عربة يجرها في شوارع المدينة لبيع الخضار، لكن «زبانية جهنم» الذين حاصروه في شهادته الجامعية، عاودوا حصاره في قوته وصادروا عربته، فما كان منه إلا أن أضرم النار في نفسه، ليكون وقوداً لثورة شعبية تونسية انتهت بالإطاحة بحكم زين العابدين بن علي، وهروبه إلى المجهول، إلى أن تلقفته يد كريمة، وآوته وأسرته في قصر الضيافة بمدينة جدة.

هذا الشاب التونسي الذي افتدى جوع شعبه بنفسه ليس أقل شأناً من جده الشاعر التونسي الكبير أبو القاسم الشابي، الذي ألهمت قصيدته المعروفة «إذا الشعب يوماً أراد الحياة… فلا بد أن يستجيب القدر» الشعب التونسي، ليحرر بلاده من الاستعمار الفرنسي، وألهمته ثانية وهو يقتص لمحمد البوعزيزي من قتلته. رحم الله محمد وأعان زميلنا معاوية على مغالبة دموعه.

ميسر الشمري
دار الحياة

تعليق واحد

  1. (وهو مثله مثل كثير من السودانيين والعرب، حاصل على جنسية بلد محترم، )

    لو المقالة دى كلها ذهبا …… فقد كرهتها من اجل هذة الفقرة ……. السودان كوطن لا يمكن اللا يكون محترم ………. مجرمى الحركة الاسلامية وكل من لف لفهم هم الغير محترميين ……… لقد ادليت بصوتى لصالح الانفصال ولكن ليس كرها فى هذا الوطن ……. بل لاننى اؤمن ان هذا الانفصال قد يكون فى يوم ما سببا لاقوى وحدة لاقوى دولة اضعفها الحروب من قبل ………. دولة اسمها السودان …… وهى دولة محترمة بكل المقايس …… تحكمها عصابة غير محترمة وهم ذاهبون قريبا.

  2. لقد بكي معاوية يس وأبكانا منذ مقاله ذاك الصرخة الداوية يوم أن أناخ راحلته ونصب خيمته في صحراء بني يعرب. وما زال يبكينا بأنينه الموجع الصادر من أعماق نفسه الوطنية الشفيفة وحسرته على وطن يتشظى وحكامه على أشلائه يرقصون كالسكارى وماهم بسكاري ولكن ماتت ضمائرهم قبل أن تموت بصائرهم.
    إبكي أخي معاوية ققد نصبنا سرادق العزاء على وطننا على امتداد ساعات قلوبنا.. بكاء على وطننا الحبيب… ملأت الدموع عيوني وما عدت قادراً على الكتابة

  3. To MASHUT…the article is good and your words are much much better..Yo are a respected man and I look forward to have unity with you soon after we get rid of the disrespected.

  4. أفـــــــــــا معـــــاوية وأنا أخــــــــــوك
    لقد بكيت بدموع الرجال الشجعان …….ولكن لنجعلنهم يبكون كما النساء على وطن لم يحافظوا عليه ……ولم يراعوا فينا إلاً ولا ذمة.
    ستقلع بهم التونسية عما قريب الى جهنم وبئس المصير.

  5. معاوية يس مثله مثل المواطنون السودانيون المشتتون فى ابقاع الدنيا__ شتتهم ظروف

    الحياة طلبا للرزق __ وجمعت قلوبهم على حب الوطن الغالى ____ السودانى خارج

    أرض المليون ميل __ سابقا__ من أخلص خلق الله لحب بلده ___ تهزه أبسط الاشياء

    التى لاتحرك شعرة فى الموجودين داخل الحدود ____

    دى ياجماعة مرارة وحلاوة الغربة ندفعها من شبابنا وحرماننا من اهلنا واصدقاءنا

    واخبابنا__ ومن ريحة ترابنا المخلوطة بريحه النخيل والنيم ____

    آه ياسودان ____ كفى________

  6. الشئ المؤسف انو السودانى فى الغربة همو على السودان وعلى السيناريوهات الممكن تحصل فيهو اكبر واقوى من شعور الذين هم بالداخل – هل هم مخدرين ولا خلاص وصلوا الى اللامبالاة ورضو بالواقع ام ماذا؟

  7. معنى الوطن يتعمق في الغربة بشدة تجعل دموع الرجال مثل أستاذ معاويةهذا المحب لوطنه تنهمر لدرجة دفعت زميله ميسر الشمري من دار الحياة إلى أن يسجل له هذا الموقف المترع بعشق الوطن ..
    إن وطننا اليوم يعاني من جراحات التمزق التي صارت غرغرينا تنخر في جسده الطيب بالفساد المالي الذي تئن به سجلات المراجع العام من أرقام مهولة إبتلعتها جهات حكومية .. بل إن هناك جهات ترفض المراجعة لحساباتها … و الآن يتم الإستعداد لقبض ثمن تضييع جنوب الوطن من أمريكا و حلفائها …
    كيف لا نبكيك يا وطني و قد عض أبناؤك ثديك الذي أرضعهم و مزقوه و امتصوا دماءه و هم يهتفون لا للسلطة و لا للجاه ..
    و ابكي على بلد مجروح بدمعن يملا ليهو جروف
    بشعرن يسافر في مرافيهو لعله يلقى ليهو حروف
    حروف تحرق جوف كل سوداني في قلبو حب الوطن بيطوف
    بكت عاشة و بكت فاطمة و ميري من فظاعة الكفن اللي فيك ملفوف
    لتبقى أنت يا سودان , ففداك يا وطني نموت ألوف و ألوف

  8. كلامك صحيح ياطارق .. للاسف لمست هذا لدى زيارتى الاخيرة.. اغلب الناس فى الداخل
    لاتعرف مايجرى ولا تتابع ولاتقرأ الاصحف النظام ولا تقرأ الانترنت ..وواقعين تحت رحمة اعلام الدولة ومغسول دماغهم ( طبعا الا القلة المهمومة بالوضع) واذا ناقشت اى واحد منهم
    تجده مسطح تماما .. ويقسم ويحلف بان هذه الحكومة لايوجد احسن منها ابدا واذا ذهبت فستضيع البلد.. ومن هو البديل المناسب ؟ والمؤسف ان اغلبهم من فئة الطلاب الجامعيين هنا تكمن الخطورة وهذا واجب القوى والاحزاب الاخرى والمثقفين فى تنوير المواطن البسيط بحقوقه وكشف مايحدث فى البلد …. لانالتغيير ياتى من هؤلاء البسطاء هم الذين سيخرجون للشارع وهم الذين سيدلون باصواتهم..
    المؤسف ايضا انى سألت احد الطلبة لماذا ينتمى للمؤتمر الوطنى ويؤيده؟ فقال بكل بساطة : حتى اضمن لى وظيفة بعد ان اتخرج..ليس الا.. الى هذا الحد تم الرضاع ناشئتنا الانتهازية والانانية

  9. بلدنا محترم وشعبه محترم ولكن العصابة المتحكمة فينا هى الغير محترمة:eek: :lool: :rolleyes: ( ) ;) :o :lool: (؟) :mad: ;( :D :confused:

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..