ما قاله المدعو “قائد الحامية” لعناية السيدة الوالدة

عند زوال الشمس، ولمدى ثلاث سنوات متصلة، كانت تذهب في أيام الخميس من كل أسبوع إلى قائد العسكر، الذي يمِتُّ إلينا بصلة قرابة بعيدة، لتسأله نفس السؤال:
– “أقتيل هو..
أم أسير”؟.
أغلب الوقت، كان يزجرها. وأحياناً، أحياناً جدُّ قليلة ومتباعدة، كان يشفق عليها.. يُطمئنها: “بنتَ العم طاهر.. أنا رجل مباديء.. كيف تطلبين مني الكتابة في أمر عودته؟. ثم هو بخير.. وشرفي العسكري هو كذلك.. ألا تصدقين؟.. هاهو التقرير أمامي.. لم نُصب بضرر جسيم. إذن، ألا تسمعين الراديو، يا امرأة ؟.. فبالأمس فقط… تعرَّض جيش العدو لخسارة موجعة”؟.
كانت تخبرني، آخر الليل، بما دار بينهما.
وكان يُصادف، حين تعود من رحلتها تلك، أن يمر بها عدد من الجنود العائدين لتوِّهم من الجبهة لسبب أو آخر. كانت تستوقف مَن تراه “منهم مناسباً”. وكانت تشعر، في كل مرة تفعل فيها ذلك، وكأن اتفاقاً خفياً قد نشأ فيما بينهم على ألا يقولوا لها شيئا سيئا قد حدث له هناك، على أرض المعركة البعيدة النائية.
كانت تقول للواحد منهم: “من قبيلة الأشراف.. فرع بني العباس… ذاك اسمه…. وتلك أوصافه. حسناً، أقتيل هو.. أم أسير؟. قل لي يا ولدي.. فأنا أمّه.. تكلّم.. ألم تقابله هناك؟. لا تصمت هكذا.. قل لي.. تكلّم يا ولدي.. أمر المؤمن كله خير.. قل لي.. تكلّم… لا تخش شيئاً”
كانوا يكتفون في الغالب بهزّ أكتافهم.. بالصمت.. أو بمواصلة أغنيات تتوسل إلى حبيب له فخدان مستديران ومصبوبان كدوائر نداء خافت بعيد. إذ ذاك.. إذ ذاك فقط.. كانت تلعنهم.. تعاتبهم بصوتها المترع الحنون: “الحرب اللعينة لحست عقولكم.. ثم ما هذا الغناء الفاحش؟.. أصبحتم مجانين.. لا تراعون حتى حرمة الطريق.. وامرأة في مثل سنّي!… احمدوا الله أن عاد بكم سالمين”. لكنَّ واحداً منهم… (واحد فقط…. مازال يرتدي بزّته؟.. و يتوكأ على عصا مقوسة و مصنوعة من خشب السنط المتين).. قد ربت ذات مساء بعيد على كتفها….. وقال:
– “ليس هناك..
سوى الانتظار..
يا خالة”.
هناك، أسفل عامود النور، حيث كان يتمايل في وقفته بُعيد قدميها الواهنتين، وقفت تتأمّل آثار السنط المتناثرة في غير مكان… كانت تقاوم. تنحني على نفسها. تغالب سقوط دمعة بدت قريبة إلى درجة الإعياء والتشظي. أخيراً رفعت رأسها. ونظرتْ ناحيته. “لقد اختفى”!? لم يعد له من وجود!. أجل، لم تره قبلها، وهو يوغل ولا بد في قلب العتمة بساق واحدة. “المسكين”، قالت. ثم استدارت عائدة في هدوء. كان صدى كلماته الأخيرة لا يزال يرن داخل أذنيها المسحوبتين للوراء:
– “ليس هناك..
سوى الانتظار..
يا خالة”.
منذ تلك اللحظة، لم تعد تغضب من مرح الجنود العائدين. “المساكين.. لقد واجهوا الأمور الصعبة هناك.. ثم ما عيب الغناء يا ولدي؟. لو أن قريبي القائد الهمام المظفر.. ذهب إلى هناك ليوم واحد.. (تضحك).. لكن صاحب الكرش السمين.. لا يذهب. يشرب الماء البارد فقط…. ويتثاءب”.
كنت، أثناء غيابها، أعيد قراءة الصحيفة. وفي الوقت نفسه، أستمع لما يردده المذيعون عادة على رءوس الساعات: “هذا.. وما زالت قوات المشاة الباسلة تمشّط المناطق المتاخمة للحدود الجنوبية.. بحثاً عن فلول المتمردين الهاربة. هذا.. وسنذيع عليكم تفاصيل عمليات “سيف العبور” عقب انتهاء هذه النشرة الإخبارية، مباشرة”. هكذا، كنت أنقل إليها البشائر.. “بشائر النصر المبين”.. متطلعا من آن إلى آن إلى بريق عينيها الغائب منذ أمد بعيد. لكنها، لدهشتي الشديدة، كانت تُغير مجرى الحديث.. لتغرق نفسها في تفاصيل الاحتفال الذي ستقيمه بمناسبة العودة. لقد خططتْ وأعدت وهيّأت نفسها لكل شيء، عدا شيء واحد، ظلّ قابعاً هناك، في مساحة الصمت الكثيف الماثل بيننا أحياناً. شيء لا يريد كلانا النطق به. كانت تقول: “ماذا لو أقمنا (يا ولدي) ليلة عُرسه في ليلة عودته الميمونة نفسها؟. قل لي (يا ولدي) ألا يكون ذلك جميلاً؟، ما رأيك”؟.
كنت أوميء برأسي موافقاً.
وكان، حين تغلق على أمل عودته جفون عينيها المتعبتين، يعنُّ لي هذا السؤال: “أيعود أخي الليلةَ.. من رحى الحرب الأهلية.. البعيدة.. الدائرة هناك.. ويطرق.. كعادته.. باب غرفتي المكدسة بالأوراق.. أم سيظل.. قبالة صورة أبي.. مُعلقاً على جدار الصَّالة، مثل نورِ نافذةٍ مشرعة بطابقٍ معتمٍ آخرَ الليل”؟.
[email][email protected][/email]