ما بين أمين بلة وود الشلهمة

الإنسان العربي شاعر بطبيعته، حتى قيل إن كلمة عربي هي مرادف لكلمة شاعر. كما أن الإنسان العربي وفي لمن يحب ويرتبط وجدانياً بالمكان والزمان؛ خاصة إذا اقترن ذلك بإقامة محبوبه وقربه منه والأنس معه. وليس أدل على ذلك من مطالع قائد شعراء الجاهلية التي تبدأ بالنسيب والتشبيب وذكر ديار الأحبة وما يرتبط بهم من معالم وأزمان. ولذلك إذا شط بهم البين أو ظعن الأحبة، أصابتهم اللوعة واحرقتهم نار الشوق، وهاجت فيهم الذكريات وسهروا الليالي يروعون النجوم ويسامرون طيف الحبيب. وإن شئت فأقرأ قول أبي الطيب المتنبي في هذا الشأن إذ يقول:
ليالي بعد الظاعنين شكول طوال وليل العاشقين يطول
يبن لي البدر الذي لا أريده ويخفين بدراً ما إليه سبيل
وما عشت بعد الأحبة سلوةً ولكنني للنائبات حمول
فها هو أبو الطيب الشاعر الطموح الذي شغلته الإمارة يصيبه ما أصاب ود الشلهمة من تباريح الهوى فيأتي شعرهما متطابق تماماً ويعبران عن ذات الشكوى والأحاسيس الدفيقة التي تملأ الجوانح وتؤدي إلى البوح المستطاب لدى العشاق: يقول ود الشلهمة رحمه الله عند فراق أحبته ورحيلهم:
قاموا الليلة من دار الدمر وأنقلو
حازمة ضيعنتم منجمعة ما بنفلو
سقّد مايقي روقة الغمدة مابية تطلو
وقلبي مع الجراسة البنقرن قام كلو
وطرأ على ذهني ذات البوح الذي نجده أيضاً عند الشاعر الجزائري عبد الكريم قذيفة، لما قرأت لشاعرنا الرقيق أمين بلة، مع نوع من الاقتران بين كل هؤلاء في صدق العاطفة، واختلاف في دلالات الارتحال ومعانيه، مع اتساق الأبيات قافية وجرسًا يقول الشاعر قذيفة:
هنــــا أقامــوا لبعض الوقت وارتحلـــــوا ودونهم ســــــُـــــدَّت الأبـــــــــــوابُ والسبـــــلُ!
هنا أقاموا سنينَ الجمــــــر ما غمضتْ لهم جفونٌ ولا ارتاحتْ لهم مقـــــــــــــــلُ!
هنـــــــا أقامـــــوا وعنــــــد التــــل خيمتهـــُـم كانت يحـــــجُّ إليهــــــا الضــــــــــــوءُ والأمــــــلُ
ماذا تبقى؟ على أطرافهـــــا سكنتْ عنــــــــاكبُ الوقت حتى الوهمُ والخبـــــــلُ!
ويتأوه الشاعر أمين متسائلاً بقلب متصدِّع:
فيم اجتراري ماضيهــــــــم وقد رحلوا أهو الوفـــــــــاءُ ومالي في اللقــــــــاءِ أمــــــــلُ؟
أم أن قلبــــــي عصـــــــيٌّ لا يطاوعنـــــي أم أنني يا قلـــــبُ من ذكـــــــراهــــم ثمـــــــلُ؟
حطــوا بقربــك أزمانا ســـــــعدت بهـــا وكانـــت بطلعتـــهــــــم تســـــتبشـــــــــر المقـــــلُ
الدارُ من بعدهــــم جفتْ منابعُهــــــــــــا فلـــــــم تطـــبْ لي بهـــــــا جلســـــــــاتي الأُولُ
فكيف يا قلبُ لا تبكـــي لفراقهــــــم وكيـــــــف يـــــا دمــــــعُ لا تهمــــي وتنهمـــــــلُ؟
فالشاعر أمين بلة يتأسى على تينكمُ الغافلة التي طاوعت هبَّة الركب واستجابت لصوت المنادي: “هيا فقد آن الرحيل ومواصلة المسير”، واستدعى مَلَكة النظم ليجتزُّ في انكسار ذكرى سنين خلت، متلمظاً حلاوتَها، بينما يعتُب على نفسه ويسائلها بقلبٍ خافقٍ، وبلسانٍ مخبوءٍ تحت غلالة مُطيَّبةٍ بأريج الهوى: لم لا تسلو من كانت تتهلَّل لرؤيتهم الوجوه، وتشرق لطلعتهم العيون، وتبرُق الثنايا؟ فما أحدثه بقاؤهم بقربه سلب قلبه، وغذى تيارات الثمالة لتسري في عروقه حدَّ الخدر وربما الغيبوبة، وأجَّج دواخله بطاقة مُتقدَّة كلما أراد كبتها نفح الوفاءُ الزيتَ في فتيلتها على أمل اللقاء. تساؤلات أمين مفعمة بالرقة والجمال، ومشبعة بالعاطفة، وكأنه هنا والصمة القشيري حين بكى لحظات الفراق سيان فكل هؤلاء الشعراء يُغالبون حالة وجْدٍ واحدة، وكأنهم في مركب تكسرت ألواحه:
حننت إلى ريـــا ونفســـك باعدتْ مزارك من ريـــــَّا وشــــــــعبــــاكمـــا معـــــــــــــــــا
فما حســــن أن تأتي الأمــر طائعــــــاً وتجــزع أن داعي الصبابـــــــــة أســــــــمعـــــــــــا
قفا ودعا نجدًا ومن حــل بالحمى وعـــزَّ لنجــــــــــد عنـــــــــــدنا أن يـــــــُودَّعـــــــــــــــــــا
وأذكـــــــر أيـــــــام الحمـــــى ثــــم انثنـــي علـى كبــــــدي خشـــــــــيــــة أن تصــــــدعـــــــــــــا
ود الشلهمة أيضاً عبر عن ذات المشاعر التي انتابت هؤلاء الشعراء عند ساعة الرحيل أو الظعن فيقول:
النوم البريح الليلة قاشرنه أبصاري
أخلى الدكة ظعن المسه بيبرد ناري
شدرة داره قوقن فوق فروعها قماري
يرتاح كيف ذهن عقلي وتروق افكاري
–
[email][email protected][/email]