السَّجَّانة… مصنع الذكريات

بالأمس انتقل طارق إبراهيم وقبله بأيام رحل مجدي محجوب فيا لبهاظة الفقد كما قال حميد.. هذان العزيزان هما بعض من رفاق الصبا الباكر جدا في السجانة، ولعل هذا الرحيل يصبح سبباً لنستدعي بعض ذكريات من ذاك الحي القادر على خلق علاقات إنسانية تستمر العمر. السجانة الحي العادي جداً المملوء بالمحبة والحنين وضحكات الصغار، والناس الطيبين. التشابك الاجتماعي البديع الذي شكّل مجتمعات الستينات والسبعينات الوديع السهل البسيط، مجتمع السجانة عاش متجانساً ما عرف القبلية ولا غيرها من آفات مماثلة. حينها كانت مثال عظيم لأي حي سوداني تتكامل فيه المكونات كلها ليكون صانعاً للذكريات وبامتياز… وانعم بها من ذكريات،،، الإنسان وتقاطعاته الحياتية مع الزمان والمكان وتأثير هذا (الزمكان) على الفرد من القوة بحيث يلازمك الأثر بدرجات تتفاوت طول العمر، وما مكتوبنا اليوم وحزننا لرحيل رفاق الزمان الأوّل إلا بعضٌ من ذاك، كيف بالضبط يمكن تفسير صداقات وعلاقات إنسانية تدوم خمسين سنة أو تزيد، وهي في كامل النضار؟ وكيف تحتفظ الذاكرة بتفاصيل دقيقة عن مراحل في الحياة، لعقود؟ وقوفاً تحت ظلال الرحيل خطر لي الكتابة واستكتاب الآخرين لإعادة تصوٌر المكان، الشوارع والدروب، المباني والمعالم التي شكَّلت سجانة زمان،، سمِّها نوستالجيا، سمِّها ذكريات سمِّها أسى على زمن لا يعرف الجار عن الجار إلا الاسم الأول أحياناً أو سمِّها إن شئت أسف على مشهد ذوبان الوطن الجاري حالياً. جغرافياً، حي السجانة في تقديري هو المنطقة جنوب الشارع المتجه شرقاً من القسم الجنوبي والمار أمام مدرسة الأم وما أدراك ما مدرسة الأم وفتيات تلك الأزمنة بفساتينهن اللبنية وأحلامهن الفسيحة، وتنتهي جنوبا بالشارع المار أمام مركز شباب السجانة، وما أدراك ما المركز وإضافته الفاعلة في عوالم الرياضة المتنوعة، أما شرقاً فيحدها شارع نادي الأهلي، أي الحي بكامله يقع غرب حي الخرطوم جنوب 1 وتنتهي السجانة غربا في شارع الحرية… ذلك المستطيل يحوي حياة بكاملها،،،وإن جاز لي استدعاء بعض الملامح القديمة فالبدء حتماً لدواعي الوفاء، من مدرسة الديم غرب الابتدائية وهي تتوسط الحي تقريبا وليس بعيدا عنها مدرستي الخرطوم جنوب 2 والاتحاد للمرحلة المتوسطة. نقاط علم مضيئة خرّجت أجيال وأجيال،،، شمال السجانة يوجد قشلاق البوليس (وهي كلمة تركية الأصل) وتجاوره بيوت الحرس وفي نفس الركن يوجد مسجد أنصار السنة.. وليس بعيدا تجد مركز صحي السجانة وجواره كان هناك دار للعجزة! لعل بعد كل هذه السنين نجد تفسير عن لماذا في سودان متسامح آنذاك كانت تلك الدار هناك؟؟ ومن كان ساكنوها،، اللطيف أن في الفسحة الملاصقة للدار من ناحية الغرب كانت موقف تاكسيات،، اللافت أن معظمها كان صغير الحجم، كانت هناك مجموعة من عربات البرلينا والموريس والهيلمان الصفراء والخط الأخضر من أولها لاخرها ودائرة خضراء تعلن في داخلها عن أن هذا تاكسي الخرطوم،،، تلك أزمنة كانت الخرطوم آمنة مطمئنة. أمَّا الفنون فكان للسجانة نصيبها، إذ بها (دار الخرطوم جنوب) للغناء والموسيقى حيث ملتقى أهل الفن ومنصة انطلاق كثير من الأعمال الفنية التي شكلت الوجدان والذائقة الفنية السودانية، يكفي أن تعلم أن (أصبح الصبح ) النشيد الأشهر كان ميلاده هناك، (المصدر/ الجزيرة.نت) أيضا من المعروف أن عدد كبير من العازفين يتَّخذ السجانة سكناً وعمداً هذا المقال لا يذكر أسماء ويترك الباب مفتوحاً للتعقيبات.. فبالسجانة من عماليق الفنون على اتِّساعها الكثير. أمّا عن الطعام فشرق السجانة شهد لسنوات طويلة فول (الله جابو).. كان المطعم داخل نادي الأهلي وبه شباك يفتح جنوباً مخصص للعامة وكان من المطاعم التي يهاجر لها الناس…وكان من ذاك الفول الذي يستحق الهجرة له. أما غرب السجانة وعلى شارع الحرية كان هناك حلويات السلام،، علم من أعلام الخرطوم كلها،،،أشهر باسطة ولبن ربما في العاصمة المثلثة، السلام كان محل ليس بالضخم لكن أمامه مساحة شاسعة تجد القوم فيها يغازلون الباسطة بشكلها الأسطوري شبيه علامة (الديناري-الدايموند) والغارقة في بحيرات من عسل واللبن ليس ببعيد،، والسمن ذا النكهة المميزة جزء أصيل من التركيبة، والإضاءة دائما خافتة في تلك القطعة من الجنة وكأنها لإضافة مزيد من الخصوصية لسيمفونية التهام الباسطة تلك. وإن عرّجنا على الرياضة تجد الإشارة لمركز شباب السجانة أعلاه في جنوب الحي العريق، وبه من الأنشطة الرياضة المتنوعة الكثير وما غابت الكرة أوسع الألعاب انتشاراً ففي منتصف السجانة يقف النادي الأهلي، النادي المكافح الموجود على خارطة الكرة السودانية لعقود طويلة. وتقع السجانة كما معلوم بين ناديين خرطوميين كبيرين،، نادي النيل في جنوبها ونادي الخرطوم تلاتة في شمالها والسجانة ترفدهما باللاعبين. كذلك وليس بعيدا عن مبنى النادي الأهلي يقف نادي النسر فريق الحي التاريخي وممثله في ليق الخرطوم، وشهد الحي فريقاً آخر في أزمنة بعيدة استمرّ فاعلاً لزمن اسمه (النيران). تلك كانت تجربة متقدمة ومفيدة جدا للناشئين، اشتهرت السجانة بالسوق الذي يحمل اسمها. وهو من أهم المراكز على الإطلاق الجامعة لمواد البناء منذ دهور طويلة (المغالق). تمدد السوق مع الانفجار السكاني في العاصمة وتطورت البضائع فيه مع السنين ولاستراتيجية الموقع واستحالة نقله لمكان آخر، حدث ربما أهم تغيير في تاريخ السجانة على الإطلاق، إذ تغوَّل السوق على مساكن المواطنين، حدث هذا ببطء شديد كما هي عادة التغييرات الكبرى. منطق رأس المال فرض نفسه، فصارت البيوت إمّا دكاكين أو مخازن. وبدأت السجانة في التحوّل من حي سكني به سوق إلى سوق به حي سكني! لا ينبغي لي والحديث عن سجانة زمان أن أتجاوز /حجَّة هَوْسا/ امرأة كأنها خليط الزمان والمكان أو هي كشُجيرة نبتت فهي دائما هناك، تماما كما الطريق الذي تفترشه، حجة هوسا تمتلك ملامح دقيقة ووجها من النوع الذي لا تستطيع أبدا تحديد عمرها وإن تأملت فيه. لعلها كانت فاتنة ذات شباب. إن كان للتسالي (التسالي الواحد ده) جائزة نوبل فحتما حجة هوسا هي الأجدر باستحقاقها، كانت امرأة مثابرة تتخذ الأرض أمام أحد الدكاكين موقعاً لا تحيد عنه، ليس بعيدا عن سور مدرسة الديم غرب الغربي. تبيع في ركنها المجيد ذاك، مع التسالي الأسطوري، (المَرَروْ) وهي الكلمة السائدة حينها لي فول الحجَّات قبل أن يصبح فول سوداني وتجد هناك قراصة نبق وأشياء أخرى على صينية من الالمونيوم، كانت حجة هوسا بعضاً من التاريخ والجغرافيا في آن واحد ووجها ساطعاً لسودان مشرق وبسيط، و لحي متصالح مع ذاته اسمه السجانة تكفي أشياء صغرى فيه لصناعة سعادة كبرى وبالضرورة مصنعاً لذكريات تبقى عقوداً طوال،، لهوسا في عليائها السلام ورعى الله السجانة وأهلها الكرام وكل من عبرها ذات حين.
خارج النص/ اعتذار واجب ما هذا المقال إلا تداعيات عصفت بذاكرة بدأت تشيخ،،، حتما وبلا أي شك سقطت عن هذا المكتوب ملامح كبرى وغابت عنه الإشارة لعلامات رئيسية في السجانة وبالضرورة قد يكون بعض ما كتبنا ليس دقيقاً فالعذر والتماس العفو مُقدَّم.. فما القصد من هذا أن يكون مبحثاً أكاديمياً بل هي محطات مبعثرة لسنين الحياة الأولى تماما كما اختزنتها ذاكرة الصبي الذي كنته حينها… ونكن من السعداء إن التقط بعض ممن كانوا من الشاهدين أطراف الحديث وخلق توثيق مكتمل للسجانة أو لغيرها من أحياء…
خالد عبدالحميد عثمان محجوب
و الله يا خالد أنا لست من السجانه و كان لي الشرف أن أكون ، لكني قرأت سردك لذكريات هي في الأساس تحمل عبق كل أحياء الخرطوم العاصمة لا بل و كل أحياء مدن السودان القديم ، و قراه و ريفه و كل شبر في السودان في ذلك الزمن التي تحكي عنه ، أعادني هذا السرد لأعيش لحظات طيبات و أن أسترجع عبق عطر تلك الأيام للسودان الجميل ، سودان المحبة و المحنة و الإنسجام بين ناسه ، إجترار الذكريات هو إستراحة نفسيه و ذهنية ، ليت السجانه تعود لتلك الروح التي عشتها فيها و يعود لنا السودان أطيب مما كان ، إنساناً و أرضاً تسعه بكل سحناته و ثقافاته .
الخرطوم القديمة كانت جميلة مثل كل السودان القديم كان جميل نحن في الديوم الشرقية صورة مصغرة لكل السودان السجانة- المايقوم -و الحلة الجديدة-القوز-الرملية-الشجرة-والعزوزاب-والكلاكلات-الخرطوم ٣و٢-الخرطوم شرق-العمارات.
ولكن الانظمة الدكتاتورية و الايديولوجية و افرازاتها دمرت كل جميل في السودان.
تحياتي.
نشرت على الفيسبوك قبل أسابيع بعض ذكريات نشأتي بالسجانة، ارجو الإطلاع عليها آملاً أن يكون فيها مايفيد. وأرجو رفدها بما يلزم من تصحيح وإضافات.
تجدونها على الرابط:
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=pfbid0N3VhWAMdzNTudE8UMBz1E2NMc6cA6Rcb3kgzExmMvDsVDszT78xfwN2Fu2KovBW9l&id=841115005&mibextid=Nif5oz