إن خير الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة فضيلة..

لا بد من تقييد حديث (محدثات الأمور) في حيزه الدلالي وسياقه الكلامي، فالاسلام لم يأتِ ليعبئ العقول ويغلفها في (لحظة آنية) معينة، وإنما جاء ليفتحها على الابداع والابتكار والسير في الأرض (قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ)، لماذا نحكم بالاقامة الجبرية لكافة المفاهيم والاصطلاحات ودلالاتها اللغوية المنفتحة على كافة التأويلات ونحبسها في زمن لم يعد بالامكان إستعادته، لماذا ينهار عقلنا ويقع صريعاً أمام خطيب لمَّا يفقه بعدُ أحكام الطهارة، ونعجز عن محاورته وهو يعمم مفهوم حديث يحذِّر من البدعة في (الإيمان) ليربطنا إلى الأبد بعقالِ بعيرٍ على على جذع نخلة خاوٍ بصحراء نجد، وهو يمتطي محدثات السيارات رباعيات الدفع.
كل المجتمعات تقوم على الابداع والابتداع والخلق والاتيان بما لم يأتِ به الأولون، في حالة تماهٍ تام مع صيرورة التاريخ وسيرورته نحو الأمام، بينما نحن نتوجسُ خيفةً من كلمة (الابداع) لانها تشترك في مبناها ودلالتها مع كلمة البدعة، وبالتالي يُهرَع صاحبنا إلى المرويات معطلاً ملكة التفكير، لظنه أن شروط الاجتهاد لم تعد متوفرة وما إن تقع عينه اتفاقاً على حديث (فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ) فيُدخل في دائرة الحمى كافة أنواع الابداع وأشكال الفنون والابتكار ويحشرها حشراً سداً للذريعة واغلاقاً لكافة منافذ الحياة، ولا يتوانى في تكفير من يرفع حاجب الدهشة، لتصبح حياتنا قاحلة بلا فنون ولا جماليات.
وعلى المستوى السياسي تم افقار الكلمات وتفريغها من مضامينها لتصبح مجرد انعكاس لتجاربنا السياسية الفاشلة، فالتغيير والثورة لم تعد كلمات تعني التوق والشوق والوله للحرية والانفتاح على العالم والمستقبل الرحب وانما أصبحت تعني تجهم رموز المعارضة السودانية الذين امتلكوا الحقيقة المطلقة، ويمارسون هواية لعبة (الكديس والفار) مع الحكومة التي طاب لها المقام واستيقنت أن لا قاهر لها اليوم، وأما مصطلح الديمقراطية عِوَض أن يكون المشاركة في الحكم، أصبح وسيلة للإقصاء وتفويج الدهماء ومنح الآخر حرية محاورة نفسه، وأي كلام خارج هذا الاطار فهو بدعة وكل بدعة خيانة.
لقد انسحب الحاضر من تحت أقدامنا واتسعت الهوة التي تفصل بيننا وبين أبنائنا في رؤاهم وأنماط تفكيرهم وقيمهم الضابطة لتحركاتهم، وانتزعوا قسطاً وافراً من الحرية عنوةً وقد كنا نضِنُّ به من قبلُ على أنفسنا وعلى أهلينا اعتقاداً أنها تخالف مبادئنا. لقد عزف أبناؤنا عن الجلوس للاستماع لبطولاتنا وثوراتنا فقد حكموا عليها (براجماتياً) بالفشل الذريع من خلال منتوجها المأسوي الذي يعيشونه اليوم، كل ذلك يشير إلى ضرورة تغيير أُطر التفكير وتبني وسائل جديدة لردم الهوة، فإذا ظللنا نرى أن الغناء (حقيبة) وكل توليفة جديدة بدعة، فسينتهي بنا الأمر في (عنقريب كراب) من تحته علبة نيفيا كبيرة لزوم (التمباك)، وأبناؤنا من بعدنا سيعيدون أخطائنا لأن تطورهم يفتقر للمنهج والرؤية، فكل شيء عندنا تلقائي ومباشر.. تباً لنا ولتلقائيتنا الساذجة..
لسنا في حاجة اليوم إلى التفكير في صلاح الدين الأيوبي ولا سيف الدين قُطُز، إنما نحن في حاجة إلى مبدعين خلاقين على شاكلة هايدغر وغادامير لنفلسف طرق النظر والتفكير لنستطيع إعادة قراءة أنفسنا وتراثنا في ضوء مناهج البحث والمعرفة الحديثة بلا وجل ولا خوف على الدين، نحن في حاجة لستيف جوبز وبيل جيتس لابتكار وادارة واقع جديد، تماما كما غير صلاح الدين وقطُز واقعهم لأنفسهم، وكما غير علماء الفرس ووسط آسيا قديماً واقع العرب ورفدوه بترجمات علوم الهند والسند والاغريق والرومان.
الوحدانية واجبة في حق الله ودون ذلك الشرك، بينما الكثرة والتنوع والتوالد والابداع والابتكار للأشياء والمعاني والألفاظ والرؤى والأحلام والمشاعر واجب في حق البشر وبالتالي البدعة هنا فضيلة والاتباع رذيلة.
التفجير الذي حدث بالأمس في احدى الاحتفالات بالمولد في باكستان يعتبر تطبيق سيء جداً لمفهوم البدعة، الشيء الذي يدفعنا دفعا لمراجعة الكثير من مفاهيمنا الدينية الخاطئة للحيلولة دون سيلان مزيد دماء?
صديق النعمة الطيب..

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..