من ريره إلى بوينس آيرس

“يلاك يا الوقل من ديم رفاعة نقوم
وفي الحلة أم غفر لقعادنا ما في لزوم
إت لحمك كمل وأنا عيني جافت النوم
بدور تبر البراري وحسك الحصى المردوم”
قدمت قناة البحر الأحمر الفضائية، قبل يومين، فلماً وثائقياً عن “أم هبج”؛ أي بطانة “أب سن”، حيث الماء والخضرة والوجه الحسن والأنعام، وحياة البداوة والشعر والكرم الفياض، وكل ذلك مما يدخل البهجة على النفس ويسر الناظرين. ولعل أبناء جيلي ممن درسوا المرحلة الأولية في ستينات القرن الماضي يذكرون تلك القصيدة الرائعة التي سطرها الأستاذ والمربي العظيم عبد الرحمن علي طه، رحمه الله، وضمنها في كتاب “سبل العيش في السودان”، الذي أعدته شعبة المناهج ببخت الرضا. وقد جاء في تلك القصيدة الرائعة، بعد أن ودع الصدّيق في القولد، متوجهاً صوب البطانة فيقول:
ودعته والأهل والعشيرة ثم قصدت من هناك ريره
نزلتها والقرشي مضيفي وكان ذاك في أوان الصيف
وجدته يسقي جموع الإبل بما بئر جره بالعجل
وقد كانت ريره يومئذ مورد الماء لأهل البطانة “مشرعهم” حتى جاء مشروع حلفا وتبدلت حياة الناس؛ وترك معظمهم البداوة ليعمل بالزراعة ويعيش حياة الاستقرار في القرى. لكن الذين جربوا “النشوغ” والدمر وسمعوا صوت ” الواواي” لا شك أنهم يحنون إلى الأماكن مثل ريره في البطانة “والعاديك” في دار الريح، كما تحن الإبل إلى المعاطن؛ فهي جزء من ماضيهم وأيامهم الجميلة التي لا تنمحي من الذاكرة. عموماً، قد شاهدت ريره، في ذلك الفيلم، وهي عبارة عن أطلال؛ فقد هجرها ساكنوها، بيد أنها لا تزال تحتفظ بشيء من رونقها؛ إذ تحيط بها غدران المياه وتحفها الخضرة وتطل عليها الجبال المخضرة، ولكن مع ذلك ذرفت العين إذ خلت من أهلها الدار! وسألت نفسي لماذا يا ترى حرمنا أطفالنا، في هذا الزمن المملوخ، كما يقول الطيب صالح، من كل ذلك الدفق الوجداني الذي كنا نجده في تلك القصائد التي ظلت حناجر الأطفال الغضة، لأكثر من خمسين عاماً، تردد لحنها الشجي في كل المدن والقرى والبوادي السودانية، بحماس وغبطة وحبور في آخر كل حصة جغرافيا؛ فيزداد تعلقهم بوطنهم وكل ما فيه من جمال وألق، واستبدلنا ذلك بمواضيع لا تمت لحياة معظم أطفالنا بصلة روحية أو معيشية؛ فباخ المنهج الدراسي وخلا من كل محتوى وطني من شأنه أن يعرّف الطفل بهذا الوطن الجميل. تلك الأناشيد كانت تشدّ نياط القلوب بأوتار لا ترتخي بكل بقاع الوطن، من القولد حتى يامبيو ومن محمد قول حتى بابنوسة، وفعلت في النفوس فعل السحر، ولا يزال وهجها باقي فينا نحن الكبار بعد مرور عشرات السنين. بكل تأكيد، لسنا ضد تجديد المناهج وتطويرها، خاصة وأنني من قبيلة المعلمين وأعلم جيداً مفهوم تطوير المناهج، وأعلم كذلك أن ثمة تطور قد حدث في حياة الناس مما يستوجب تغيير المناهج الدراسية لتواكب روح العصر ومتطلبات الحياة المعاصرة، لكن لا يعني ذلك أن ندير ظهورنا إلى كل ما هو تراثي وقديم وإلا أصبحنا كالمُنْبَتَّ لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى! وأنا أشاهد ذلك الفيلم الوثائقي، خطر ببالي قول ود الشلهمة وهو يتغزل في أم هبج بقوله:
مسك القبلة في كوع الشمال برّاقِك
وقشّط سدرو في عامر سحابو وساقِك
تبونك قرنن والسيل دهك شقّاقِك
والضايق نشوغك حار عليهو فراقك
إن سيل الذكريات عن تلك الأيام الخوالي لا يكاد يتوقف؛ فكل من درس على يد الأستاذ محمد صديق الرفاعي والناظر عوض الفادني، في مدرسة دميرة الأولية، بشمال كردفان، لا شك أنه يتذكر تلك النمة الشجية التي كان يرددها أولئك المعلمون الأفذاذ الذين تركوا أثراً باقياً في نفوسنا حتى اليوم، نسأل الله أن يجزيهم عنا خير الجزاء، بقدر ما بذلوا من جهد كبير وغرسوا في نفوسنا حب الوطن، ومن تلك الروائع قول الشاعر:
رُفــَاعَه الربَّة قَافَاها البـــليب طَربـانْ
نــَاطح المِنُّو ميزان قلبي مو خَرْبـان
فـوسيبْ السَواقي البي اللَدوب شَرْبــان
بعيدة بِلودُوْ فـــوقْ في بَاديةْ العُرْبـانْ
لا مانع من تطوير المناهج، لكننا بحاجة لربط أطفالنا بماضيهم؛ حتى يتعلموا حب الوطن، فإن ذلك من ضرورات التربية الوطنية. ومثلما كانت تلك المناهج تربط الطالب غض الايهاب بوطنه، فإنها في مرحلة متقدمة تنقله إلى رحاب أوسع؛ فيعرف أصدقاء من كل أنحاء العالم، من ريره حتى بيونس آيرس، وعبرهم يتعرف على نشاطهم البشري والاقتصادي، ويكون ملماً بتضاريس بلدانهم وطبيعتها من براري كندا في الدنيا الجديدة إلى عالمه العربي والإفريقي؛ مستخدماً أطلس العالم وأطلس جمهورية السودان. ومن جانب آخر، كان المعلم على درجة عالية من التدريب والإلمام بمادته، الأمر الذي أسهم بشكل كبير في إثراء حصيلة الطلاب وتزويدهم بقدر معرفي وثقافي لا يستهان به. ويضاف إلى ذلك ما كانت تقدمه المناهج من محتوى أدبي ولغوي وافي باللغتين العربية والإنجليزية. وباختصار، كانت مناهجنا تزود الدارس بمعلومات كافية عن أمر دينه ودنياه.