الخرطوم لماذا لم تعد تقرأ ؟

التربوية نفيسة الولي: الأمر برمته يرجع لاختلال المنظومة التعليمية المدير التنفيذي للدار السودانية للكتب: ارتفاع الرسوم المفروضة على الكُتب والمزاج السياسي المتهور
الاتحاد العام للأدباء والكتاب السودانيين : ضيق ذات اليد وكساد سوق الوراقين
كادر السياسي: التمدد السياسي على المعرفة انعكست سلباً على العملية بنقيضها بشكل مباشر
حمور زيادة: الأزمة في كبت الحريات فكثير من الكتب تصدر في الخارج
عماد البليك: المناهج التربوية والتعليمية صارت منفصمة عن الواقع الحضاري المفترض في صيرورة التطور في العالم
ياسين سليمان: الجيل الحالي ملول تنقصه المثابرة والحماس، غير مقبل على نزهة العقول، وهذا سر السطحية الكارثية التي يتسِّم بها عدد كبير منه
موسى حامد: وسائل التواصل الاجتماعي أثّرتْ على الناس سلباً وأبعدتهم عن القراءة
أزمة حقيقية تصل حد الكارثة تكشف عنها الأرقام بارتفاع نسبة الأمية في البلاد، بلغت في آخر إحصائية (9.691) أمياً ما يوازي (31%) من العدد الكلي للسكان، فبعد ستين عاماً من استقلال السودان يزيح الستار عن واقع أكثر إهمالاً لقطاع التعليم المدرسي والتعليم خارج النظام المدرسي، ذلك يدحض مقولة: (القاهرة تكتب، بيروت تطبع، الخرطوم تقرأ) فنتاج عدم القراءة يصاحبها بصورة مباشرة أمية مهنية وحياتية وعجز عن مواكبة المتغيرات في مناحي الحياة، بل يعد مؤشر من أهم مؤشرات التخلف من هذا الرقم المهول.
وضعناً قضية “لماذا لم تعد الخرطوم تقرأ”؟ أمام مشارط أهل الشأن تمحصياً للأسباب التي أقعدتها عن المعرفة، فكانت الصدمة كبيرة عما آل إليه الحال، طبقاً لما ظل ينادي به منذ تفجر ثورة التعليم التي أضحت وبالاً بحسب من فجرها، بجملة من الصدمات بين هذا التحقيق.
شرارة الأزمة
منذ قيامها عقب انقلاب 1989م، أعلنت حكومة الإنقاذ الوطني عن تغييرات شاملة في مجال التعليم في السودان في سبتمبر 1990م، وخصصت مبلغ 400 مليون جنيه سوداني، لهذا الغرض، واعدة بمضاعفة المبلغ في حالة نجاح المرحلة الأولى لتغيير نظام التعليم الرامي إلى تلبية احتياجات السودان، إلا أن الحال لم يتعد مرحلة تلاوته، ذلك ما دعا لقرارات ثورة التعليم العالي في 4 ديسمبر من عام 1989م، بموجب ذلك تقرر زيادة عدد الجامعات ومضاعفة عدد الطلاب المقبولين، إلا أنه وبمحاصصة ذلك تشوب العملية شوائب، فإن الخرطوم التي كانت تقرأ ما تكتبه القاهرة وتنشره بيروت، أصبحت لا تزور المعارض ولا تقرأ ولا تطلع نسبة للضغوطات المتوالية التي عصفت بكل شيء بواقع مزرٍ تشهده الأروقة الثقافية والحياتية عموماً.
أزمة تعليم
قطعت بأسباب قلة الإطلاع والقراءة الأستاذة والتربوية نفيسة الولي، معلقة أن الأمر برمته يرجع للمنظومة التعليمية، معربة بأنه إلى جانب تغيير إيقاع الحياة وعدم توفر زمن كافٍ للقراءة، تقفز قضية “الإعلام الجديد” كأحد أبرز تلك الأسباب التي كانت بمثابة “صب البنزين على النار”، فقد شغلت بال الناس، ولكن الأسباب الأولية تكمن في “المنظومة التربوية” التي تخللت بفعل الأزمة الاقتصادية، موضحة ذلك في أن “مرتب المعلم” لا يكفيه، لذا أضحى يعمل (بعدي وشك)، وذلك تأثره على المتلقي أكثر، فعدم القراءة مسألة مشتركة ومنظومة متكاملة، جازمة بتأثيرها على العملية التربوية. وقالت نفيسة: المعلم عرف عنه الإطلاع والاستزواد من جميع المشارب، وتأثير ما أسلفت ذكره يكمن في حاله اليوم، تجد أن معلمي اليوم دون ثقافة، وبالكاد ضئيلة يترآى ذلك في التعامل والعلاقة بين الطالب وأستاذه وأسرته أضحت هامشاً، أيضاً احتجاب الأسرة عن تحفيز سلوكيات القراءة نخر من عظمه، قاطعة بأن القراءة انقرضت لجملة تلك الأسباب مفرخة معلم جاهل يفكر في المقابل المادي دون حد الإشباع مما أثر سلباً على كل شيء، فالمسألة أضحت مظهر أكثر من حصافة.
الضائقة المعيشية
وعلى ذات المنوال اجتمعت الآراء بأن أزمة القراءة وثقافة الإطلاع تكمن في الضائقة المعيشية التي تعثو فيها البلاد، إلى جانب الحروب التي كلفت الدولة الكثير، ليبيِّن أمين أمانة الولايات بالاتحاد العام للأدباء والكتاب السودانيين محمد الخير عبد الله محمد الشامي بقوله: مصر تكتب وبيروت تطبع والخرطوم تقرأ، مقولة قديمة متوارثة، إلا أن ذلك كان فى عهد مضى، معرباً الآن الخرطوم لماذا لا تقرأ اليوم لابد أن يكون من أسباب تجعل كذلك، تتمثل أولاً في ضيق ذات اليد، نجد أن سوق الوراقين سوق كاسدة فبين الفينة والأخرى يطل علينا معرض الكتب، وحينما نذهب إلى هناك لا نملك إلا أن نتنور على تلك العناوين المذهلة ودور النشر الفخيمة ذات الجودة والمضمون، إلا أنه حين نتحسس جيوبنا لا نجد شيئاً، أما السبب الآخر عدم وجود المكتبات المتفرعة على الطرق والأحياء، قافزاً بتساؤل “أين هذه هي المكتبات اليوم”؟ ، هل توجد مكتبة بمعنى مكتبة تحتوي على المعرفة كالشعر والقصة والرواية البحث العلمي بحوث التراث كل هذه الأشياء وما يتعلق بالسياحة، ليقطع الشامي: تكاد تكون غير موجودة، بل معدومة، فالآن لا نستطيع أن نشتري ثلاث صحف يومية مهمة جداً في حياتنا، فما بالك أن تقتني كتاباً؟.
ارتفاع تكاليف التعليم والطباعة
كانت إجابة المدير التنفيذي للدار السودانية للكتب “أحمد عبد الرحيم مكاوي” بمثابة صدمة، ذلك حين قال: إن أزمة جهل الخرطوم يتفرع منها الظاهر والخفي، لعل أبرزها وأعده السبب الرئيس ارتفاع سعر الكتاب، ففي وقت سابق الأستاذ الجامعي كان لديه مال كافٍ ومتوفر للشراء والاستزواد المعرفي، إلا أنه الآن لا يستطيع أن يفي حاجيات بيته، ونضع في الاعتبار ارتفاع سعر استيراد الكتب، بجانب اختفاء المكتبات المدرسية من المدارس، فمسبقاً كانت تلك الأشياء من الأساسيات، الدولة بتدعم الكتاب بسعره الرسمي أو تخفِّض قيمة رسومه، إلا أنه الآن هناك رسوماً أضيفت على الكتاب تصل إلى 30% على سعر الكتاب، ولم تعد للدولة أدنى اهتمام بالكتاب ولا بالعلم ولا حتى بالتعليم.
الإعلام والمزاج السياسي
وأردف “مكاوي” في تمحيصه لجملة الأسباب، وقال: فوق كل ذلك يلعب المزاج السياسي دوراً كبيراً لعلاقته الكبيرة، فإن كانت الدولة بمزاجها السياسي المعارض والمناوئ ليست لديه أي قيمة للتعليم تبقى العلمية “خربانة وفضكم من حكاية قراءة دي”، نافياً أن تكون للوسائط الجديدة أثَّر في العملية بقوله: من يرمي الأسباب في الوسائط الجديدة أقول بأنها ليست محور في ذلك، ضارباً المثل بمعرض فرانك فورت الذي شهده العام المنصرم، وقال : تجاوزت فيه مشاركة المكتبات الورقية حاجز الـ(7.500) عدى 10% فقط، من التمثيل الإلكتروني، فالدول في أوروبا مازالت حتى الآن تعمل بشكل قاطع وتؤمن بالمكتبة الورقية.
انفصام المناهج
وساق في الذكر الروائي حمور زيادة بقوله: المشكلة في رأيي تأتي من عدم وجود ثقافة القراءة في مجتمعاتنا، لنقل قد تراجعت هذه الثقافة منذ سنوات لأسباب سياسية وأخرى اقتصادية وثالثة اجتماعية، ففي السودان لم يعد الكتاب متوفراً بسهولة الكتب تصدر في الخارج، ويمر وقت قبل أن تدخل السودان، وغالباً ما تدخل نسخ مزوَّرة وحتى هذه تعتبر أسعارها غالية بالنسبة للقارئ العادي، فما بالك بالكتاب الأصلي، كما أن المجتمع أصبح محافظاً إلى حد كبير، فربما لا يتقبل كثيراً من المكتوب، فلذا لا يخاطر ناشر بجلبه إلى داخل البلاد، ليعزي الروائي عماد البليك أسباب العزوف عن القراءة بأنها ظاهرة فيما يتعلق مباشرة بالطبيعة العامة لمسار المجتمع من حيث وضع القراءة كأولوية في تغيير أنماط الفكر والحياة وهذا للأسف لم يعد موجوداً في السودان بسبب الاشتغال على العقل والوعي لم يعد قائماً، فالمناهج التربوية والتعليمية صارت منفصمة عن الواقع الحضاري المفترض في صيرورة التطور في العالم، وبيَّن “البليك” أن الأمر الثاني السياقات العامة للدولة من حيث التطور والتحديث ونمط الحياة المدنية، مشيراً إلى أن الأمر الثالث أن الناس كانت تملك وسائل محددة لتلقي المعارف والثقافة، وبهذا فالكتاب كان مدخلاً لابد منه.
جيل ملول
ليبيَّن الصحافى موسى حامد، ماذكر اهتمام الناس في تراجع يرجع للحالة الاقتصادية الخانقة، منعت الناس من زيارة المكتبات، واقتناء الكتب ووسائل التواصل الاجتماعي أثّرتْ على الناس سلباً وأبعدتهم عن القراءة، لكنني لم أقرأ أية إحصائيات شكل الزهد أشاهده في زياراتٍ شبه أسبوعيةٍ لمكتبات الخرطوم، عضده الكاتب الروائي والقاص ياسين سليمان “حبيب نورا” وجزم أن الناس شُغِلوا بمتابعة الفضائيات وانكبوا على السوشال ميديا، ينهلون منها ما استطاعوا، أعتبر أن الجيل الحالي ملول تنقصه المثابرة والحماس، غير مقبل على نزهة العقول، وهذا سر السطحية الكارثية التي يتسِّم بها عدد كبير من أبناء الجيل الحالي، يمكن أن بعض الناس تمنعهم الظروف الاقتصادية، فليس من اليسير اقتناء كتاب حسب ترتيب الأولويات، فاختفت المكتبة في معظم البيوت، وضاعت متعة القراءة. أعرف سيدة إغريقية طاعنة في السن كانت تعيش في القاهرة، صُدِمت حين أخبرتها أنني أصبحت أقرأ كتاباً واحداً في الشهر، وعندما زرتها في بيتها الذي يشبه المكتبة، ذُهلت تماماً، دار بيننا حديث أختلفنا فيه، فقالت لي أحضر الكتاب الفلاني، وافتح صفحة كذا، وستتأكد من صحة كلامي، وبالفعل فتحت الصفحة، وكانت مفاجأة من العيار الثقيل! للأسف، لم يعد هناك الكثيرون مثلها.
التمدد السياسي على المعرفة
من تلك النقطة ساق الكادر السياسي السابق “معتز بشير” أزمة القراءة وكشف في تشريحه للأسباب بقوله: تهميش الإطلاع والمعرفة هي أس حلقة السياسة السودانية خوفاً من ينفتح الباب على مصراعيه، في محاولة للمس أسباب فشل كل التكتيكات تجاه مسألة التغيير برمتها، وانعكست العملية بنقيضها بشكل مباشر لطرفي (النظام وأحزاب معارضة)، فرخ كادر جاهل، وطرق أزمة القراءة هو طرق لكافة المنظومة في الدولة، ينكشف في جمود في الواقع وفي الفكر لدى المؤسسات في آن واحد؛ يخلط بين المشكلات الحقيقة والمشكلات الفرعية، وفي هذا التوجه يعطون انطباعاً إن العقل والفكر شيئان غير مرغوبان وليس مطلوبان أصلاً، ومن هنا نجدهم يدافعون عن الثقافة السياسية البائسة أو الجامدة، لذلك فإن التيار الغالب في الوقت الراهن (ومع الأسف) في عالم العمل السياسي متحجر الوعي

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..