الـمشروع الحضاري الإسلامي" ومطاردة المرأة!

أدبيات الإسلامويين وتنظيراتهم، كما هي أدبيات وتنظيرات الأدلجة عند غيرهم، تعج وعودها وتعبيراتها الكبيرة باليوتوبيا الـمتعالية. ومن التعبيرات الشائعة التي تتردد في تلك التنظيرات مقولة "الـمشروع الحضاري الإسلامي" كونه جوهر ما تستهدف تحقيقه أو استعادته الحركية الإسلاموية الراهنة. تنتسب هذه الـمقولة إلى قاموس طويل من التعبيرات الفضفاضة الجذابة للجمهور العام والبراقة الـمظهر في الخارج، ورأسها "الإسلام هو الحل"، لكنها الفقيرة من ناحية الجوهر.
بيد أن محاكمة الإسلامويين يجب ألاّ تتم تبعاً لـمقولاتهم وشعاراتهم التي يطالبون بها، ذاك أن من حقهم إطلاق ما يريدون من شعارات والدعوة إليها، من ناحية ديمقراطية صرفة. الأهم والأدق موضوعياً هو الـمحاكمة على الـممارسة وأرض الواقع.
وما أتاحته الـممارسة الإسلاموية حتى هذه اللحظة لا يشير إلى أي إنجاز حقيقي على الأرض في تحقيق "مشروع حضاري ما" أو حتى التوجه نحوه. ما بين أيدينا هو تجارب عملية متعددة: إسلاموية حركية وصلت إلى الحكم والسيطرة في منطقتها مثل إيران، أفغانستان، وبعض أقاليم الحكم الذاتي في ماليزيا وإندونيسيا، وقطاع غزة، وإسلاموية حركية وصلت إلى التأثير في القوانين بشكل مباشر (برلـماني) أو غير مباشر (حشد شعبي وإعلامي) مثل العديد من الدول العربية والإسلامية (الكويت، اليمن، الأردن، مصر، الـمغرب، باكستان، الجزائر، اليمن…).
من الحركات الإسلاموية الـمسيطرة في بعض إندونيسيا إلى الحكم (الإسلامي) في السودان وحتى "حماس" في قطاع غزة، يكاد يبتلع هاجس الـمرأة كل شعارات "الـمشروع الحضاري الإسلامي" ويقزمه في عيون مؤيديه إلى كيفية مطاردتها ومحاصرتها وفرض القيود عليها. في السودان يتجه البلد نحو التمزق والتقسيم تحت ظل "الحكم الإسلامي" لأن الولع بالإمساك بفرض القيود على الـمجتمع يتقدم على أولوية الوحدة الوطنية. ففي أكثر من مرحلة، وكما يؤرخ عبد الوهاب الأفندي الـمطلع على التجربة السودانية، رفضت حكومة البشير (ومنذ مفاوضات الإيقاد سنة 1994 وحتى الآن) القبول بشراكة وطنية تحفظ الوحدة الترابية للسودان مع الجنوب مقابل عدم تطبيق الشريعة والقبول بنظام علـماني في البلد يحفظ حقوق الجميع. منظرو "الـمشروع الحضاري الإسلامي" فضلوا الحرب وتقسيم البلد بدعوى تطبيق الشريعة، التي اختزلت هي الأخرى في مطاردة مرتديات البنطال في الخرطوم، إضافة إلى اتساع طبقة الـمنتفعين والقطط السمان من إسلامويي القطاع الخاص. وفي وقت قد تلحق فيه عدوى التقسيم التي حلت بالجنوب غرب السودان ودارفور ترتفع أصوات وعقائر الإسلامويين متهمة الغرب بالتآمر لتقسيم السودان، دفعاً للتقصير الذاتي والـمسؤولية الحقيقية دوماً إلى الخارج.
في قطاع غزة لا يحتاج الزائر إلى دقة ملاحظة كي يرى تكرار حماس ببلاهة ما قام به إسلامويون عديدون في أكثر من مكان، الانهماك في أمور ثانوية وهامشية محطها مطاردة الـمرأة، على حساب أولويات كبرى وضاغطة. لا يعني هذا أن تحقيق تلك الأولويات يشرعن فتح الـمجال للقبول بما يتم فرضه على النساء هناك، فهي سياسات مرفوضة أياً كان زمنها ومكانها وظرفها. لـم يعد للتساؤل الذي رافق سيطرة حماس على الحكم في قطاع غزة وفيما إن كانت ستنهج نهجاً أردوغانياً أم طالبانياً أي معنى عملي، إذ حُسمت الإجابة عنه بالخيار الثاني. ما يحدث في قطاع غزة من ناحية الأسلـمة الـمفروضة وقمع الحريات الاجتماعية والثقافية والإعلامية التي لا تنسجم مع رؤية حماس هو أمر خطير ومرفوض ويكرر تجربة الأنظمة الشمولية والاستبدادية ولكن برداء ديني.
في ظل حصار همجي وغير إنساني يمثل جريمة ضد الإنسانية تشارك فيه دول العالـم الكبرى، تزيد "حماس" من معاناة الناس في مطاردة مظاهر اجتماعهم العفوي، وتغيير ما تعودوا عليه لقرون طويلة. أعراسهم ولقاءاتهم واختلاطهم ووضع الـمرأة بينهم هي توافقات اجتماعية وطبقية وظرفية لا دخل للقانون في تحديد شكلها. عندما يضطر الأزواج والخاطبون إلى الاحتفاظ بعقود الزواج في جيوبهم أثناء تنقلاتهم خشية اقتحام مسلح ما جلستهم والسؤال عن علاقتهم ببعضهم البعض، فإن ذلك معناه انحدار مخيف في قيم ونمط الحياة الفلسطينية لـم يكن موجوداً على الإطلاق. عندما تُطاردُ دراجات هوائية سيارة عائلية تجلس فيها امرأة بجانب رجل يمد ذراعه على متكئ الكرسي خلف رأسها وتوقفها وتقودها إلى مركز الشرطة فإن ذلك "عسس" سخيف على حياة الناس. وعندما يتم إيقاف شقيق وشقيقته في طريقهما للبيت ليلاً لأنهما لا يحملان هوية بما يثبت "العلاقة الشرعية" بينهما فإن ذلك ممارسة طالبانية لا مماراة فيها. سلسلة طويلة من الـممارسات تبدأ بفرض غير مباشر للحجاب على طالبات الـمدارس (من دون مستمسكات إدارية وتعليمات مكتوبة)، إلى مطاردتهن في الـمطاعم والـمقاهي، إلى حظر تدخين النرغيلة، وصولاً إلى "تفتيش" الكمبيوترات الخاصة بحثاً عن صور وأفلام مخلة بالأخلاق. قدرات طالبان التقنية لـم تتح لها ما تتيحه قدرات حماس التقنية الآن. فحماس التي طورت الكثير من تلك القدرات بإبداع ينتزع الإعجاب في مجال تصنيع الصواريخ وصد الاختراقات الأمنية الإسرائيلية واستخدام التكنولوجيا الحديثة، تستخدم الآن الكثير من تلك القدرات لضبط ومراقبة الـمجتمع الغزي بأبوية تثير الاشمئزاز. لـماذا تقوم حماس بذلك وهي تدرك ما يجره عليها من نقد وخسارات؟ كيف يمكن أن نفهم أولوية فرض الأسلـمة في حين يتم تأخير أولوية إعمار قطاع غزة بعد الحرب، مثلاً، وإنفاق مئات الـملايين وبناء مئات البيوت الـمدمرة لا تلح على حكومة حماس بسبب الـمناكفة مع حكومة رام الله حول من يسيطر على الـمال وآليات الإنفاق؟ هل يُختزل "الـمشروع الحضاري الإسلامي" في فهم حماس إلى مطاردة الـمرأة والأسلـمة الـمفروضة، في جزء مقسوم من الوطن الكل؟ هل السيطرة والأسلـمة تُقدم على الوحدة الوطنية جرياً وتساوقاً مع الـمثال السوداني الـمدمر؟
هناك تفسيران قد يُساعدان في فهم مآلات حماس الطالبانية على الـمستوى الاجتماعي. الأول هو تآكل الفكر الإخواني الـمعتدل في داخل "حماس" لصالح الفكر السلفي الـمتشدد.
خلال ثلاثة عقود أو أزيد تصاعد تأثير السلفية الوهابية داخل حماس نتيجة أن عدداً متزايداً من الـمتنفذين فيها الآن هم من خريجي الجامعات السعودية الذين التحقوا بها في منح دراسية وتسهيلات مالية، وعادوا إلى القطاع بعد سنوات عدة متشربين الفكر السلفي. لذلك فإن من يحاول نقض "طلبنة" حماس لقطاع غزة على أساس أن الحركة تنتمي إلى فكر الإخوان الـمسلـمين الاجتماعي لا يعرف ماذا يحدث على الأرض. الأمر الثاني هو أن ظروف الحصار والـمواجهة التي فُرضت على الحركة بعد فوزها في الانتخابات، ثم توقف "الـمقاومة" بعد الحرب الإسرائيلية الوحشية، وبروز مظاهر فساد عند بعض مسؤوليها، ثم ما يرافق تجربة أي حكم من محسوبيات وسواها، قاد بمجمله إلى زيادة وتائر نقد الجماعات الصغيرة الأكثر تشدداً لحماس، ونقد كثير من أفراد حماس لها أيضاً، واتهامها بالابتعاد عن "النهج الإسلامي وعدم إقامة حكم الله في الأرض". للرد على ذلك تتشدد حماس في الأسلـمة الاجتماعية لتثبت أنها الأكثر أسلـمة وتمسكاً بالشعارات التي كانت ترددها. لكن خلاصة ذلك كله مريرة وهي أن "الـمشروع الحضاري الإسلامي" والـمقولات الكبيرة التي يرددها الإسلامويون هنا وهناك ليقولوا إنهم البديل لـما هو قائم، يتأكد يوماً إثر يوم أن جوهرها لا يتخطى الغرق في الهامشيات، وهذه الهامشيات يحتل لباس الـمرأة وسلوكها رأس الأولويات فيها.

د. خالد الحروب ــ كامبردج
Email: [email protected]
الايام

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..