صحافة ترهل الكم .. واضمحلال الكيف !

السياسي اللبناني المخضرم والحصيف الدكتور سليم الحص .. كانت له طرائف ومساجلات مع أهل الصحف البيروتية .. فرحب بهم مرة في مؤتمر صحفي له حينما كان رئيسا للحكومة قائلا لهم.. أهلا بكم في وطنكم الثاني لبنان !
وهي إشارة اشادة ذكية بأهمية الصحافة في قيادة المجتمع والتأثير في مجريات السياسة سلبا أو إيجابا ..وناقدة في ذات الوقت لسطوة الصحافة و إنعكاساتها على الوضع العام إذا ما تجاوزت حدود المعقول في المحاباة أو العداوة !
عاصرت عهد الصحافة في ديمقراطية ما بعد ثورة أكتوبر 1964 وكنت صبيا في بدايات تلمّس الإستنارة في وعي الأمور السياسية الساخنة .. أتلهف في استباق سني للتشرب من رضاب اليراعات النيرة والنافذة الرأي ..وكان عددالإصدارات كبيرا نسبيا متوزعا مابين العديد من دور النشر و تبعيةالأحزاب .. ثم قدر لي أن أكون أحد تلاميذ مدرسة صحفيي ما بعد المصادرة والتاميم التي قلصت عدد تلك الدور وجعلتها تحت كفالة الإتحاد الإشتراكي المايوي ليجعل منها أصابعا بلا أظافر يمكن أن توذي وجه السلطان .. فأصبحت ناعمة الملمس تمسح على ذلك الوجه بأكف خجولة الآنامل الحارقة للبخور أكثر منها ناقدة أوحتى موجهة له !
لكن كل ذلك التضييق بالوصاية لم يمنع بعض الأقلام الجسورة من المجاهرة بكلمة الحق أمام ذلك السلطان وحينما كشر لها أنياب عدم الرضاء ذهبت عنه الى غير رجعة مفضلة إرضاء الضمير عن التزلف الى الحاكم وحاشيته التي تردد عصا أغنياته دون إضافة أية لزمة موسيقية قد يعتبرها نشازا فيصب عليها جام غضب تسلطه !
الآن نعيش حقيقة عصر صحافة لا تُحسد على إختلاف الظروف التي تتناوشها بين كثرة الكم التي تعتبره السلطة منة تستوجب الشكر وتستدل به كمؤشر لمساحة الحرية .. بينما القاري يتوق الى صحافة الكيف النوعي الذي لا يخضع لرقيب قبلي أو مصادرة بعد النشر .. فضلا عن سطوة الصحافة الإسفيرية التي تسحب البساط مساءا عن الصحافة الورقية فتستبقها في نشر الأحداث لتحترق الأخيرة بواراً في أرفف العرض .. وهو أمر تعترف به نقابة الصحفيين و يزكيه مجلس المطبوعات في تصريحات تبادل فيها الطرفان الإتهام بتسبب كل منهما في هذا التدني في التوزيع علاوة على ارتفاع قيمة مدخلات الطباعة وارتفاع الضرائب و الجمارك و تعرض بعض الصحف التي تقف في الضفة المقابلة للحكومة من إجحاف يصيبها في توزيع حصص الإعلان الذي يذهب جله لصحف الموالاة تبعا لما يقال في الهواء الطلق !
إذن لامناص من تقليص الصحف باندماجها في عدد محدد من الدور وفقا للتوافق في الخط الفكري و النهج التحريري لكل مجموعة تجد نفسها أكثر قربا في الإنسجام من بعضها ..و طبعا لابد أن تبرزمعضلة استيعاب المئات من الصحفيين و العاملين في ذلك العدد المهول من صحفنا الورقية وهو ما يتطلب تصفيات دقيقة وعادلة في إختيار الذين أثبتوا علو كعبهم في بلاط صاحبة الجلالة .. إذ من الملاحظ أن الكثيرين من الشباب من الجنسين ربما دلفوا الى هذه الدور من قبيل البحث عن لقمة العيش ليس إلا ..و هو أمر لابدمن مواجهته بحقيقة أن الصحافة والإعلام مهنة عجينتها الأولى الموهبة ومن ثم الكفاءة العلمية والإستزادة دوما من مناهل الثقافة التي تطور الملكات .. وهي ليست وظيفة تبدأ بالتوقيع على دفاتر الحضور صباحا الإنصراف مساءً و الوقوف عند صفوف الصرافين في نهاية الشهر.. ولكنها مهنة المحبين لها دون تقيد بمواعيد محددة ولا تحتمل الجلوس طويلا وراء المكاتب إنتظارا للخبر ليأتي متأخراً محترقا يتلكأ على اقدام الوكالات أو استعارته من عيون الأسافير التي تسهر في سماء الفضاء المفتوح !