لأمن والتنمية وجهان لعملة واحدة !

كتبت أكثر من مرة عن الاستقرار النسبي الذي تشهده ولاية شمال كردفان مقارنة بغيرها من ولايات غرب البلاد، سواء في ولايات دارفور الكبرى أو ولايتي جنوب وغرب كردفان، فكلا الأخيرتين تشهدان صراعات دامية إما بسبب التمرد أو بسبب الصراع القبلي والانفلات الأمني الناجم عن انتشار السلاح وضعف الإدارات المحلية وعدم قدرتها على التصدي للأحداث وتقديم الجناة للعدالة أو التوصل لمصالحات بين القبائل تضع حداً لسفك الدماء وإزهاق الأرواح.
ويبدو أن هذه الابتلاءات تشق طريقها الآن نحو ولاية شمال كردفان أيضاً؛ نظراً لبعض المقدمات التي توشك أن تكرر التجربة المريرة في أكثر من موقع؛ فقبيل شهور كادت أن تنشب صدامات دامية بين المواطنين وبعض العناصر النظامية حول الأبيض لولا أن تدخلت القيادة العليا للدولة وأجلت هؤلاء الجنود لمواقع أخرى. وليس بعيداً عن الذاكرة اعتداءات حركات التمرد على مناطق التعدين الأهلي في الأطراف الشمالية من هذه الولاية، وفي الأسبوع المنصرم شهدت منطقة أم بادر حادثاً مؤسفاً راح ضحيته ضابطان في ريعان الشباب من جهاز الأمن والمخابرات الوطني وأصيب فيه مواطنون أبرياء وعزّل، ومما يزيد الطين بلة أن الأمر لم يكيّف قانونياً حتى هذه اللحظة إذ تضاربت أقوال كبار المسئولين في الولاية فمنهم من وصف الحادث بأنه صراع قبلي معزول ويقول بعض المواطنين إن المتسببين في الحادث ينتسبون إلى بعض الأجهزة الأمنية، ومهما كان الأمر فإن هذه شرارة لابد من إخمادها لأنها في الواقع تحمل أكثر من دلالة.
أولاً، إذا كان الحادث ناتج عن صراع قبلي فمن الصعب أن نصفه بأنه معزول لأن القبائل ليس من السهل عليها ترك الثأر خاصة في مثل هذه المناطق الرعوية التي ينتشر فيها السلاح بطريقة غير مقننة ويحتك فيها الرعاة من الطرفين في الفيافي التي لا وجود فيها لأجهزة الدولة، وإن وجدت فهي لا تستطيع حتى توفير الحماية لنفسها للأسف الشديد! وإذا كان الحادث بفعل بعض العناصر النظامية فيجب أولاً توضيح الحقائق وتقديم المسئولين عن هذه العناصر للمحاسبة. من ناحية أخرى، كيف تتحرك هذه العناصر المنفلتة وتحدث كل هذا الفساد والتقتيل وهي تمتطي أحدث وأسرع وسائل النقل وتحمل أسلحة لا قبل للمواطن بها، دون أن يكون على رأسها شخص يضبط تحركها وسلوكها؟ فهذا لعمري موقف ينذر بخطر داهم على المنطقة قد ينسف ما تتمتع به من استقرار وطمأنينة تعود أساساً لتماسك النسيج الاجتماعي وليس لشيء آخر.
ووفقاً للقاعدة الشرعية التي تقول: (درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة) فإننا نهيب بسلطات الولاية وضع خطة أمنية محكمة تتوفر لها كل العناصر المطلوبة للتنفيذ من كوادر بشرية نظامية ومنضبطة، مع معينات فنية وتدريب متقدم يضمن القدرة على التعامل مع الأحداث بشكل سريع وحاسم حفظاً للأمن والسلامة في المنطقة؛ ذلك لأن مقصود الشارع من هذه القاعدة هو أن يحفظ على الناس دينهم، وأنفسهم، وعقولهم، ونسلهم، ومالهم، وإذا لم تتحقق هذه الأمور فما الفائدة من الحديث عن النهضة والتنمية؛ إذ كيف يمكن أن يستفيد الناس من هذه المعطيات إذا لم يتوفر لهم الأمن؟
صحيح أن السيد الوالي وبعض أعضاء لجنة الأمن قد قاموا بتحرك سريع إلى موقع الحدث وامتدت رحلتهم حتى الفاشر سعياً منهم للتوصل إلى اتفاق بين السلطات المعنية في الولايتين من شأنه أن يحد من مثل هذا الحوادث مستقبلاً، إلا أن ذلك ليس كافياً لعدة أسباب؛ أولاً أصبحت شمال كردفان الآن محط أنظار الحركات المتمردة التي تهدف إلى زعزعة الأمن بعدة وسائل وطرق منها تسهيل حصول المواطنين على السلاح بأرخص الأثمان وربما مجاناً مثلما فعل خليل إبراهيم في وادي هور بعد عودته من ليبيا بعد سقوط حكم القذافي، وفي بعض الأحيان استدراج الشباب للانخراط في العمل المسلح ضد الدولة بدعوى التهميش وغيرها من هذه العبارات التي تدغدغ مشاعر المغامرين الذين لا يتحسبون للعواقب، واستغلال طول الحدود المفتوحة مع أكثر من دولة تشهد اضطراباً ولها مآرب في إحداث الفوضى في كل أنحاء البلاد من الشمال والغرب وقد حكا لي أحد أفراد الأجهزة العسكرية من دولة عربية مجاورة كيف أنهم كانوا يبيعون البنادق الرشاشة للمواطن السوداني بسعر خروف واحد أيام حكم الرئيس نميري، وما أشبه الليلة بالبارحة!
إذن ما هو المطلوب إزاء هذا الوضع؟ أولاً، لابد من اتخاذ كافة التدابير اللازمة حتى لا يتسبب انتشار السلاح في مزيد من الفوضى والاضطراب ويزهق أرواح الناس ويروعهم ويخرجهم من ديارهم، ووفقاً لهذه القاعدة يجب دفع الضرر قبل وقوعه، بطرق الوقاية الممكنة، وبالتدابير التي تزيل آثاره وتمنع تكراره. وإذا لم نفلح في تحقيق الأمن فلا داعي للحديث عن النهضة والتنمية فكلاهما وجهان لعملة واحدة. ورضي الله عن الفاروق عمر الذي قال: “لو أن بغلة عثرت بالعراق لكنت مسئولاً عنها لما لم أسوي لها الطريق”.