مشاهدات عائد من دار الريح

تهطل الأمطار هنا بغزارة كأن أبواب السماء قد فتحت بماء منهمر يحمل الخير والبشرى للناس والحيوان قاطبة؛ فنبت الزرع وامتلأ الضرع واكتست الأرض بساطاً سندسياً أخضراً يمتد حتى كأنه يعانق الأفق البعيد، واستبشر الرعاة والمزارعون، على حد سواء، بموسم يرفع عنهم موجة الغلاء التي سيطرت على الأسواق. عموماً، الناس في دار الريح، هذه الأيام، لا يتحدثون عن الحوار الوطني المزعوم ولا عن اللقاءات الفارغة بين زعماء الأحزاب وصناع القرار من كافة المشارب السياسية؛ فقد صار حديثهم مكرراً ممجوجاً لا يتعدى ترديد بعض الوعود التي لم تتحول إلى واقع ملموس حتى هذه اللحظة، بل هم مشغولون بشئون حياتهم اليومية ومعاشهم وزراعتهم وأعمالهم الأخرى.
من ناحية أخرى، تشهد المنطقة تحولاً كبيراً في نمط العيش وطريقة الحياة لا تخطئه العين؛ فقد تغيرت معالم القرى وبدأت تأخذ شكلاً مختلفاً من حيث العمران والأثاث؛ فكثير من المنازل الآن مشيدة بالمباني الثابتة بدلاً من “القش” ودخلت الكهرباء المحلية وبدأت المدنية تدب إلى حياة الناس مع ما يرتبط بها من مظاهر حضرية مثل الإنارة والثلاجات والتلفاز وأجهزة الهاتف المحمول ووسائل المواصلات السريعة بين القرى والمدن، مع توفر المياه النقية إذ طوي “الرِشا” ولم يعد الناس “ينشلون” المياه من الآبار بالدلاء بل حلت محلها الماكينات وخزانات المياه والمضخات والآبار الحديثة وذلك فضل من الله الذي جعل من الماء كل شيء حي. ولعل السبب في ذلك كله يعود إلى التعدين الأهلي الذي ساعد كثيراً من الشباب على الكسب السريع والحصول على أموال طائلة كان من الممكن أن تحدث تنمية حقيقية في المنطقة لو وجدت رعاية وأحسن استخدامها؛ مع أن هذا النشاط الطارئ ينطوي على مخاطر جمة بعضها ظهر للعيان مثل الفاقد التربوي الكبير وترك الناس مزارعهم ومواشيهم سائبة، الأمر الذي قد يضر بالاقتصاد الكلي للبلاد في المستقبل القريب، وبالطبع هنالك المضار والمخاطر الصحية الناجمة عن استخدام المواد الكيماوية شديدة الخطورة، فضلاً عن حالات الوفاة بسبب الإنهيارات!
من جانب آخر، تظل ولاية شمال كردفان هي الأكثر أمناً واستقراراً من بين ولايات الغرب كافة؛ إذ لا يوجد شيء يعكر صفو النسيج الاجتماعي إلا الانتشار المروع للأسلحة بأيدي المواطنين وغياب هيبة الدولة في كثير من المواقع خاصة في الأطراف النائية. على كل حال يسير نفير نهضة شمال كردفان بصورة طيبة، خاصة داخل مدينة الأبيض حيث أوشك العمل على الإنتهاء في المسجد العتيق بينما يتواصل البناء في مستشفى الولادة والميناء البري وتبذل جهود حثيثة من أجل نقل المياه من حوض بارا الجوفي عبر الأنابيب التي يشاهدها من يسير على الطريق بين بارا والأبيض. أما طريق بارا-جبرة الشيخ- أم درمان فعلى الرغم من ابتدار العمل فيه لدى زيارة الفريق أول بكري حسن صالح النائب الأول لرئيس الجمهورية إلا إنه يحتاج لمزيد من الوقت والصبر والتمويل محلياً وأجنبياً ويا ليت أن الجهود كافة توجه إلى إنجاز هذا المشروع العملاق الذي يعد حلماً لأهل الولاية وما جاورها.
أما فيما يتعلق بالتعليم والصحة، يمكن أن يقال إن الدولة قد رفعت يدها عن هذه الخدمات الضرورية حيث بات دورها يقتصر على النواحي الإدارية وصرف الرواتب وفقاً للبند الأول من الميزانية الفقيرة بينما تركت أمر البناء والصيانة وأحياناً الإجلاس لمنظمات المجتمع المدني المحلية التي لا حول لها ولا قوة على الرغم مما تقدمه بعض المنظمات الطوعية والخيرية من عون محدود ولذلك تردى مستوى الخدمات التعليمية والصحية بشكل لافت للنظر فلم تعد هنالك حملات مكافحة دورية للبعوض والناموس والذباب مثلما كان يحدث سابقاً وليست هنالك صحة بيئة بالمعنى المفهوم وهذا لعمري ينذر بكارثة وشيكة واضعين في الاعتبار المعدل الهائل لنزول الأمطار هذا الموسم ولله الحمد!
اجتماعياً، لا يزال الناس يتواصلون في الأفراح والأتراح كسابق عهدهم بل أشد؛ نتيجة لوفرة المواصلات وسرعة الإتصالات، ولكن بدأت مظاهر البذخ والصرف غير المرشد تطغى على المناسبات الاجتماعية، الأمر الذي يتطلب تدخلاً سريعاً وحاسماً من قيادات العمل العام وأصحاب الحل والعقد حتى لا تخرج المسألة عن نطاق السيطرة وتتحول إلى ظاهرة يصعب كبح جماحها مستقبلاً، والناس هنا لا يزالون بخير ويستمعون إلى النصح والإرشاد فهم على سجيتهم وفطرتهم السمحة التي قد تعصف بها تأثيرات المدنية التي أشرنا إليها آنفاً إذا تقاعس المرشد الواعي والمدرك. وبحسب رأي المراقبين فإن الوضع يتطلب تحركاً عاجلاً لضبط مسيرة التحول والاستفادة من المعطيات المتاحة حالياً حتى تجتاز المنطقة هذه الفترة المضطربة وتحافظ على قيمها وتسير قدماً نحو التطور والانفتاح على العالم بعد الإنطواء الذي ظل جاثماً لقرون متطاولة ولكن هذا كله لا يجدي ما لم تتوفر وسائل ومدخلات حديثة لزيادة الإنتاج لترفع من دخل الفرد وتحسن مستوى المعيشة والخدمات لمقابلة متطلبات الحياة الباهظة إذ الغلاء والبطالة هما سيدا الموقف الآن.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. التحيه لاستاذنا الفاضل محمد التجاني – فهذه المنطقه تزخر بجمال لا يوصف في جميع فصول السنه – اما في الخريف فهي شيء فوق الوصف – اما إنسانها فهو اطيب مخلوق على وجه الارض ولكنه اذا غضب خطير لا يتردد في استخدام سيفه او عكازه . والحمد لله كما ذكر الاستاذ فإن بعض التحسينات بدأت تدخل حياة الناس ولكن ليس بجهد من الحكومه ولكن بجهد ومثابره من أبناء المنطقه فلهم منا كل التحيه.

  2. حمدا على السلامة..ونتمنى لاهلنا كل الخير..مع احترامنا الكبير لرايك استاذنا “قش” إلا اننا نعرف جيدا أن الحكومة الولائية والمركزية ليس احد همومها المواطن الاغبش واحتياجاته..فهي بدات وافتتحت مشروع الطريق لكنه لن ينجز وسوف “تتلكك” وتتلكع فيه كما طريق الغرب السابق..حكومة لا تهتم بالتعليم والصحة بصورة جادة ..دولة وحكومة فاشلة ومنهزمة اخلاقيا..ما يسمى بالنفير عبارة عن “رشوة” سياسية..في تقديرنا.. كل الود..

  3. العمدة/ احمد ادريس — عليه رحمة الله– كان من اعيان ام جرف في دار الريح يرسل رسوله ليلا لاي فرد ( العمدة دايرك) فلا يتردد ذلك الشخص وعمدة ام دم حاج احمد له كلمة ايضا مسموعة والناظر الطيب هارون — عليهم جميعا رحمة الله ورضوانه– وبجرة قلم مسحت ( النخبة) ذلك الارث الجميل الذي اتي به الانجليز بعد هضم المكون السوداني وامن به د. جعفر بخيت قبل ان يستوزر فلما استوزر اذا به يقفز بالزانة علي ذلك الارث الجميل وتفقددارالريح وغيرها ذلك النسيج الجميل من الحكم ولو مد الله في عمر ذاك الحكم لتغير مفهوم التنمية ولما عادت صيانة مستشفيات واجلاس تلاميذ ولكانت كما شرحها( قوقل) عمل ضخم يشق قنوات الري والمزارع لسقيا قطيع الاغنام وتربيته في بادية دار الريح ولسمعت ضجيج مصانع اللحوم والالبان ولصمت اذاننا اصوات الطائرات تهبط في الجفيل او الخوي لتنقل الصمغ العربي واللحوم وخيرات كردفان الي دول الخليج– التنمية قاطرة التغيير في المجتمع وحصرها في اجلاس التلاميذ وصيانة المستشفيات تصغير لفهم ( النخبة) وتبريرلبقائهم غير المبرر.

  4. التحية للاستاذ/ محمد قش,وقد تلمست واقعا مريرا لتلك الديار الجميلة ولكن يظل النفير ونهضة شمال كردفان مثل (البعاتي) لن يلمس لها المواطن واقعا, ?وشمال كردفان أقل الولايات حظا في التنمية بشهادة اهل الانقاذ, ودار الريح والتي تمثل الجزء الاكبر من شمال كردفان تعاني غياب التنمية الصحية والخدمة والتعليم ولا يوجد بها أي طرق معبدة ( لك الله يا دار الريح )والولاية عايزة لها والي قوي يعرف كيف يوظف الامكانات الضخمة بتلك المنطقة.

  5. السلام علي كل اخوتنا في ساحتنا التي ما راينا رايتها اسم اخينا ود التجاني الا ودخلنا متاكدين اننا سنجد قولا يخاطب نفوسنا ان فرحا ففرح وجداني وان حزن فحزن نشاطر فيه دار الريح احزانها —لا شك اخي ود التجاني انه عام قل نظيره في السنين الخمسين الاخيرة فقد نزلت علي قريتنا كجمر 18 مطرة وهي التي لم تكن تستقبل اكثر من مطرتين في المتوسط في الخريف وقد كان الانبات غريبا لكل شي انقطع اثرة قام مره تانية حتي الابديب قام في قعور المرخ وحلف واحد من اخوانا الما كضابين ان الارنب زاتا قامت لانو قنص قبل اسبوع كتل 13 ارنب وقبض 7 تريرات ( الترير هو ود الارنب) ام الضبعه فقال قبال الناس يصلو المغرب بتنزل من الجبل وحلف انو لاول مره يشوف الاضليم شرق ابحديد وقال انو لو مشي شويا علي اضاة مفنخ كان لقي الفيل ودا كلو انا بتلقاه في تقرير من المك كل يوم جمعه والجمعة الفاتت دي ضحكت لحد المرة جاتني جاريه بالمويه قالت يمكن شرقت والسبب قلت ليه اها الامطار عندكم كيف قال لي يا زول هي امطار وبس حمالتك علي الليلة الصباح قلت داير اطق السخيل فراري عشق في الهرع
    غايتو لو ربنا اكرمنا بامطار زي دي وطريقنا تم حمالتك علي يا ود التجاني ما اقضيالخميس والجمعة في ام درمان وانشاء ربنا يجعلن من الذين يتفاؤلون بالخير

  6. يسلم يراعك استاذى الكريم محمد التجاني الذي نقل وسرد لنا هذة الاسطر الجميلة عن دار الريح والشكر ايضا موصول للاساتذة الاجلاء المعلقين و نسال اللة ان يجمعنا جميعا عل كلمة سوا من اجل السودان وخاصة كردفانا الغرة.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..