في رواية «الغرق… حكايات القهر والونس»: تعقّد المصائر بين الجغرافيا والثقافة

تخوض رواية «الغرق: حكايات القهر والونس» دار العين للنشر 2018 للروائي السوداني حمور زيادة، في إثنوغرافيا المجتمع السوداني، خلال القرن الماضي، بوعي مفارق، وانشداد عميق لبلاد النيلين، بتاريخيها المتوازيين: الواقعيّ المتجسد في المعيش، وهو تاريخ كابوسي عنيف، من جهة، والمتخيل الإنساني المتشكل مما يصنعه الساكنة من أفق مغاير للواقع الأول، ومعاندة القهر الجاثم، وتناسي الهم والألم المقيمين، من جهة أخرى.
تشي الرواية بنواياها التواصلية والخطابية، انطلاقا من العتبتين الأوليتين: العنونة الجامعية بين دالين محيلين على معنيين متضادين: الألم والمتعة، ثم لوحة الغلاف التي ترصد وجها أنثويا سودانيا مليحا، لم يخل من الأثر الطقوسي، والعلامات الجسدية المتمثلة في الندوب الطويلة التي تفلح الخدين لتشرخ صفاءه، وجماله الطبيعي الفطري.
يشكل موضوع «الغرق» محورا أساسيا يتمركز حوله السرد في رواية «الغرق حكايات القهر والونس»، لكنه غرق، وإن ارتبط في أغلب تفاصيل المحكي الروائي بالغرق الحقيقي في النيل لشخصيات من قرية «حجر نارتي» في ظروف غامضة، ومختلفة، فهو يحيل أيضا، على غرق مجازي ترتهن إليه ساكنة القرية التي تعيش تحت رحمة النهر «المقبل من الجنة»، يفعل بها ما يشاء، يعطف حينا، ويشح أحيانا، يمنح روح الأنس تارة، ويغرقهم في بحر مآسيه تارات أخر، بمعنى أن الغرق الواقعي الذي يستل أنفاس شخوص من القرية، لن يكون سوى تتويج استعاري قاس لغرق تلك الشخصيات في وحل الضنك، والقهر، والعناء المتجدد، في إطار الصراع المرير غير المتكافئ مع قوى الطبيعة، وامتداد الصحراء، وشظف العيش، وكلّابة النظام العسكري، واستبداد المستعمر الإنكليزي، وظلم التقاليد والعادات والنظم الاجتماعية القاسية.
انبثقت قرية «حجر نارتي» عن أصل نسليّ واحد، قبل أن تصير أُسرا وعوائل، بقدر ما تجمع بينها الألفة ودم القربى، وملح الطعام، تفرق بينها الصراعات الواهية حول المذهب العقدي، وتداول العمودية، وتوارث الأرض، وفي ظل هذا الصراع الذي قد يتأجج، أو يتوارى حسب الظروف، فيتأثر ساكنة «حجر نارتي» بهذا التوتر بين أسرتي «آل النير» و«آل البدري» قاطبة، مثلما تتأثر بالمحل والجدب، وفيضان النيل أو جفافه، واشتداد المرض، وإقبال الموت، وتقلب الأنظمة الحاكمة، واندلاع الحرب العالمية الثانية التي وصل أوراها ولهيبها إلى الخرطوم، وما جاورها، وامتد إلى حجر نارتي، وغيرها من قبائل النيل الفقيرة.
لكن وسط هذه الغمة الشمولية التي تطبق على عنق القرية، يبئّر المحكيّ الروائي محنة فئتين اجتماعيتين كتب عليهما أن يؤديا ثمن أخطاء لم يرتكباها وحدهما، بل أحيانا، لا يعرفان كنهها، وهما: النساء والعبيد (الإماء خاصة)، إذ تذوب كلّ المشاكل الاجتماعيّة الأخرى المرصودة في المحكيّ بحسّ سوسيولوجيّ دقيق، التي تعانيها باقي فئات المجموعة البشرية الصغيرة، أمام التحديات الصعبة، والمصائر الكابوسية اللتين تجثمان على رقاب هاتين الفئتين، فتحكم عليهما بالذلة، والمهانة الأبديين، وترهن حياتهما بقرارات الآخر، الذي يتحكم فيهما، وكأنهما ليستا من البشر، أو أقبلتا من كوكب آخر، مسحور ونجس، في وقت بدأت النظم البرانية ترتقي، وتنتظم، عقب الحرب الكونية الثانية، وعكفت الأنظمة السياسية على الالتفاف حول مدونات ومواثيق دولية ووطنية تعيد للإنسان كرامته، وإنسانيته اللتين أفقدتهما إياها الحروب، وغطرسة الحكام، وعتاقة التقاليد.
تبدو قضية الرق مركزية في السرد، فتتمحور حولها بقية القضايا الأخرى اللصيقة بها، في فترة زمنية مضطربة من تاريخ السودان خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ولم تكن هناك أسرة تخلو من وجود العبيد، والإماء الذين كانوا يشكلون فئة عريضة داخل المجتمع السوداني، أسوة بباقي البلدان العربية والإسلامية الأخرى، وهي فئة تباع وتشترى؛ تبعا للحاجات والنوايا، في أسواق خاصة تدعى سوق النخاسة، لكن المشكلة العويصة في الرواية هي كون الإماء والعبيد المتحدث عنهم نصيا، لم يكونوا أغرابا، أو حديثي العهد بالقرية، بل صار وجودهم متجذرا، واختلطت دماؤهم بدماء الأحرار، بل منهم من صار حرا بعد أن تم عتقه، لكن العادات والتقاليد المهيمنة أبدت نظرة المجتمع الدونية إليهم، فظلوا يعانون الظلم ذاته، يقومون بالسخرة مجانا لفائدة من هم دونهم مستوى أحيانا، فتنتهك خصوصياتهم، وتُشيأ أجسادهم من أجل استراق لحظات متع، ونشوة، على حساب سعادتهم وكرامتهم. إنهم يقومون بكل شيء، ليفوزوا في النهاية باللاشيء.
تنطلق المأساة من عمق التاريخ، منذ استقدام «السيدة العافية» الأم الأسطورية لناس «حجر نارتي» «أم العز» من الجنوب أمة لخدمة «آل البدري»، قبل أن تهديها لابنها «الناير» في مناسبة زواجه، لتخدمه، قبل أن تتحول إلى خدمة آل «حجر نارتي» جميعا، لتلد سفاحا، «عبد التام»، و«وزين دهب»، «فايت ندو»، هذه الأخيرة بدورها، ستلد سفاحا «عبير» التي ستلد مولودا بالطريقة نفسها، لكن سيدة آل النير «الرضية» تصادره منها، وتهبه هدية للغجر، لرد دين قديم، يقول السارد عن شخصية أم العز، التي اغتصب عبد الرزاق ابنتها البكر «فايت ندو» أمام عينيها، رغم أنها استفادت من الإلغاء الرسميّ للرق من قبل المستعمر الإنكليزيّ، لكن الأعراف والتقاليد أبدت إلصاق تلك الصفة بها: (أنفقت كل سنواتها رقيقا في بيت العمدة، تخدم في المطبخ، وتصنع العرقي، وتشبع الرجال. ولدت عشرين بطنا أو يزيد، من ألف رجل أو يزيد. لا تعرف من أنجبت من مَن. لا تحصي ولا تهتم. تطيع، وتدعو للإنكليز، وتدعو على العرب).
بعد وفاة «أم العز» التي عاشت عمرا مديدا، أصابها في نهايته الخرف، أخذت مكانها «فايت ندو» التي خدمت آل القبيلة مثلما خدمتهم أمها قبلها، وسعت إلى إسعادهم بصنع الشاي والقهوة والطعام على شط نهر النيل، وتقديم جسدها طوعا أو كرها لمن يطلبه من زناة الغفلة، وعزاب القرية، حتى أنها لم تتعرف من هو الوالد الحقيقي لابنتها «عبير»، ومن من طالبي متعتها المتعددين وصل إلى تلقيح بويضتها الطائشة التي كانت سبب معاناتها وحدها، بدون أن يساعدها في ذلك، من كانوا يلهثون خلف جسدها من رجال القرية؛ خوفا من الفضيحة والعار.
تتعقد مصائر الشخصيات الرِّقّيّة في مجتمع تقليدي لا يرحم، إذ تقدم جسدها وروحها لخدمة ناس القرية النيلية، بدون أن تحظى بأي تقدير إنساني يحفظ لها كرامتها، حتى بعد حصولها على صك التحرير، يظل انعتاقها شكليا، في حين تظل تسري عليها كل المظالم السابقة
وتفنن المحكي الروائي في تصوير معاناة الإيماء عند حصول الحمل الناجم عن مضاجعتهن للأسياد وأبنائهم ومن يواليهم، والعذاب الذي يشعرون به، وهن يسعين للحرص على مواليدهن، حيث اضطرت «فايت ندو» للابتعاد عن القرية حتى وضعت ما ببطنها مخافة إجهاضها من قبل السيدة القوية في القرية، زوجة شيخ العمودية، مثلما تهربت عبير كثيرا لتحمي بطنها، لكنّهن مع ذلك لن يسلمن من التعذيب اللفظي والجسدي والنفسي، فبعد وضع «فايت ندو» لوليدتها التي كانت تتويجا لنزوات من أفعال أحد أبناء بيت العمودية «الرشيد» أو غيره من المقربين منه، أسمته «شاهيناز» وعادت إلى القرية حاملة فرحا غامضا، بدون أن تدري أنها ارتكبت حماقة في عرف أهل القرية ستضعها في فوهة الجحيم، ولما سمعت الحاجة الرضية سيدة بيت العمودية ذلك، أرغت وأزبدت، وأقامت القيامة، ولم تقعدها، إذ لم تستسغ كيف تسمي «فايت ندو»، وهي من سلالة العبيد «الأنجاس»، ابنتها المجهولة الأب باسم ابنتها «الحرة»، سليلة الأحرار، وبيت العمودية، المتعلمة التي تعيش في المدينة (شاهيناز)، وهي من هي في أعينها. لم تكن «فايت ندو» تعتقد أن معزة ابنة «آل النير»، ورغبتها في أن تكون لديها ابنة تشبهها ويكون لها طموحها نفسه، ستجر عليها كل تلك المتاعب، وتضعها في موقف حرج مع بيت العمودية، وسيدته، رغم أنها تحسّ، في عمق سريرتها، أنّ في دم وليدتها، شيئا من دم «آل النير»، لكن الويل لها إن لمحت لذلك.
وتنتهي مشكلتها بمذلة كبيرة، حيث تضطر لتغيير اسم ابنتها من «شاهيناز» إلى «عبير»، وتبلع مرارة خيبتها، وهي تطفئ أقل ما يمكن أن تفكر فيه من أحلام: تسمية ابنتها، وتعليمها لتصبح شيئا ذا شأن يطرد عن تاريخ نسلها تلك اللعنة المقيمة، لكن حتى حلم تدريسها انطفأ أيضا، عقب افتضاح حمل عبير، ووضعها مولودا سفاحا، سيزيد من تعقيد وضع «فايت ندو» وابنتها في القبيلة.
تتعقد مصائر الشخصيات الرِّقّيّة في مجتمع تقليدي لا يرحم، إذ تقدم جسدها وروحها لخدمة ناس القرية النيلية، بدون أن تحظى بأي تقدير إنساني يحفظ لها كرامتها، حتى بعد حصولها على صك التحرير، يظل انعتاقها شكليا، في حين تظل تسري عليها كل المظالم السابقة، فيحرمها المجتمع من تحقيق أحلامها، ويظل يتحكم في تقرير مصائرها، واختيار أساميها، وفرض زواجها، واقتسام جسدها بالمشاع، وتعذيبها إذا ما صدر عنها ما يمكن أن يلطخ سمعة أبناء القرية، وتتجاوز هنا، القضية مسألة اللون، لتتعلق جذريا، بأصل السلالة، وتاريخ الشجرة، والوضع الاجتماعي والاقتصادي للأسرة، حيث تتوارث الإماء مآسي من أنجبنهن، وتنتقل العدوى من جيل لجيل.
إذا كان هذا حال الإماء داخل قرية «حجر نارتي»، فإن وضع المرأة عموما، كما تشخصه الرواية، لا يختلف إلا بنسب قليلة، فالمرأة قليلا ما يكون لها رأي حتى في الأمور التي تخص حياتها الشخصية، مثل الزواج، واللباس، والتدين، والانتماء السياسي، واختيار الرفيقات، وغير ذلك، ويقوم مقامها الرجل، أو الأم، أو من ينوب عنهما من الأسرة أو العائلة أو الشجرة الممتدة، في تقرير مصيرها الشخصي بدون أن تستطيع الاعتراض، وإلا ستصبح، في أعراف القرية، جانحة تتعرض للعقاب، وغالبا ما توظف مثلما توظف باقي الأشياء لخدمة الجاه، وحفظ الوجاهة داخل المجموعة، وكسب حسابات سياسية واجتماعية، بدون مراعاة مشاعرها وأحاسيسها، فيما تتعرض حياتها لحصار مجتمعي شديد يجردها من إنسانيتها، ويفرض عليها منطق الأعراف التقليدية رقابة شديدة، لارتباط خصوصيتها بالشرف القبلي، وحفظ النسب، والحرص على نقاء النسل، وتراتبية الأسرة داخل المجموعة البشرية، وأي خطأ، مهما كان بسيطا، بإمكانه تعريض شجرة العائلة كلها لخطر التضييق الأخلاقي، والمحاسبة المجتمعية، والفضيحة العلنية.
يبدو ذلك، واضحا من خلال ما عاشته شخصية «سكينة البدري» في المحكي، حيث تم تزويجها لضابط في الجيش السوداني الموالي للإنكليز بدون احترام رغبتها، أو أخذ رأيها، رغم أن قلبها كان يميل لشخصية «بشير النير». ولأن منطق العرف القبلي يجعل مسألة الزواج بين الأكابر صفقة اجتماعية وسياسية، فإنه كان من الصعب تزويج سكينة للبشير لكونهما معا، من أسرتين متنافستين حول العمودية وسيادة القبيلة، فضلا عن كون إشاعة العشيقين من القبيلة لعلاقة حبهما تعدّ من الكبائر الموجبة للمحاكمة والمساءلة الأخلاقية، ومن شأنها أن تجر على البنت، بالخصوص، ويلات، ومضايقات، وحربا شعواء من قبل أهلها ومجتمعها القبلي، بل إن رفضها الزواج بشخص معين يعني أوتوماتيكيا كونها تعشق شخصا آخر تواعده سرا وخفية عن أفراد أسرتها. وقد حدث الأمر نفسه مع شخصية «نور الشام» التي تم تزويجها للحاج بشير بعد وفاة زوجته «سكينة البدري» تعويضا عن خالتها، وحفظا للميراث، وحرصا على ألا تفوز أسرة «آل النير» بحصة إرث من «آل البدري» تزيد من وجاهتهم في القرية، وترفع أسهمهم في التراتبية المجتمعية، وتُضْعف قيمة أسرة الزوجة المتوفية في حظوظها على التنافس على العمودية في المستقبل، بدون أن ننسى الظلم الذي تتعرض له النساء بتزويجهن في سن مبكرة، وهن قاصرات لم يشتدّ عودهنّ بعد، لمواجهة معضلات الحياة الزوجية، ومشاق الولادة، ومسؤوليات البيت، ناهيك من النظرة الدونية القدحية للمرأة، واعتبارها مجرد سلعة للتبادل، والترفيه، والمتعة، والتفاضل، والوجاهة في غياب أي مراعاة لمشاعرهن الإنسانية.
إبراهيم الحجري
ناقد وروائي من المغرب
القدس العربي