مقالات وآراء

على السودانيين التخلّص من عقل الحيرة والاستحالة

طاهر عمر

من عادات النخب السودانية المرذولة إستكانتهم لعقل الحيرة والاستحالة أسير الخوف المرضي المعشعش على رؤسهم جيل عبر جيل. الحديث عن عقل الحيرة المسيطر عليه الخوف يجبرنا أن نتحدث عن تاريخ الخوف ودوره المهم عندما نعرف كنهه وتاريخ الخوف لا يقل أهمية عن تاريخ الذهنيات وكلاهما يفتحان الطريق لفك طلاسم الجمود والركود والتحجر الذي يلتصق بنشاط النخب السودانية.
وهي عاجزة أي النخب السودانية عن مفارقة عقلها الجمعي التقليدي والسبب لأننا ما زلنا تحت تأسير مؤرخ تقليدي ومفكر تقليدي ومثقف تقليدي لاحق للأحداث لم يسعفه الزمن أن يبداء مع العالم المتجدد من حولنا حقبة بعد حقبة وهنا ينام سر أن نخبنا السودانية التي لم تزال أسيرة وحل الفكر الديني من كل شاكلة ولون.
ولكنهم لهم القدرة على سودنة كل فكر وجعله محلي يسيطر عليه عقلهم العاجز بدلا من الشب عن طوقهم فاذا بهم يسودنون كل شي ويفرغونه من مضمونه حتى يبررون لعجزهم المزمن. مثلا لم يبداء أتباع مؤتمر الخريجيين حيث كانت بدايات مدرسة الحوليات وعقلانية ماكس فيبر بل لم يستوعبوا أصلا أن زمنهم كان مفصل تاريخي يعلن عن نهاية فلسفة تاريخ تقليدية وبداية فلسفة تاريخ حديثة كما أعلنت مدرسة الحوليات الفرنسية عن إنطلاقها متزامنة مع بداية الكساد الاقتصادي العظيم 1929م منذ ذلك التاريخ والنخب السودانية تتخبط كما السائر في ظلام دامس جيل عبر جيل.
لو عرف أتباع مؤتمر الخريجين أن الظواهر الاجتماعية في زمنهم تفتح على حلقات فكر جديدة لاستوعبوا ما طرحته مدرسة الحوليات من فتح الطريق لدراسة تاريخ الشعوب الاجتماعي والاقتصادي وعبره كان يكون بمقدورهم معرفة تاريخ الخوف وتاريخ الذهنيات وكيف تفارق الشعوب عقلها الجمعي التقليدي بسبب جسارة مفكريين يرتقون الى مصاف الشخصيات التاريخية حيث يبذرون فكرهم وينمو عبر القرون كما فعل كل من مارتن لوثر كشخصية تاريخية في فكرة الاصلاح الديني وتصادفت مع رغبة البرجوازية في تحقيق الازدهار المادي. وكيف تحدى جون كالفن تراث اليهودية و المسيحية المتراكم عبر آلاف السنيين وقد أصبح الأب الشرعي لسعر الفائدة لاغيا تراث يهودي مسيحي محبوس في فكرة الربا ومجسد لفكرة أن التجارة عمل غير أخلاقي . مدرسة الحوليات احتاجت لثلاثة عقود ويزيد حتى تصل أفكارها الى الجامعات الكبرى في فرنسا وتصبح أفق لا يمكن تجاوزه.
رغم أن هناك كثر من المفكرين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع كانت رؤيتهم واضحة وثاقبة منذ بداية مدرسة الحوليات وكانت مرشد لسياسيين مثلا روزفلت الرئيس الامريكي كان ناضج سياسيا عندما أحاط نفسه بمشرعيين قد عرفوا أن فلسفة التاريخ التقليدية قد أفلت والفلسفة التاريخ الحديثة قد بدأت أشعتها في الظهور ونجد كينز قد أدخل فكرة كيفية قراءة النصوص الكلاسيكية لأدم اسمث حيث دمج كتابيه نظرية المشاعر الأخلاقية مع ثروة الأمم وجاءت فكرته متوافقة مع فكرة التدخل الحكومي من اجل فكرة خلق الطلب من قبل التدخل الحكومي وفكرة الانفاق الحكومي من اجل إنشاء مشاريع جديدة وهذا ما قام به روزفلت في مواجهة الكساد الاقتصادي العظيم وحينها قال كينز عندما قابل روزفلت ووصفه كسياسي بارع مشبع بالفكر الجديد أي يسير كسياسي في الطريق الذي ينبغي أن يسير عليه الاقتصادي في كيفية خلق الطلب والوصول الى نهاية نظرية ساى أي أن العرض يخلق الطلب.
لكن عند كينز كاقتصادي وروزفلت كسياسي كانت هناك صدفة قد جعلتهم يلتقون في فكرة خلق الطلب عبر فكرة التدخل الحكومي عبر انفاق عام يخلق فرص عمل جديدة. ما أود قوله مثلا في راهننا اليوم العالم يتخلق ليولد من جديد ويحتاج لديناميكية جديدة سوف تكون على مدى ثلاثة عقود قادمة وهي فكرة الحماية الاقتصادية أي أن تنطوي كل أمة على نفسها من أجل إنعاش صناعاتها الوطنية وفي حالتنا كمجتمع تقليدي كيفية تحولنا الى مجتمع صناعي ولنا موارد تتيح لنا مثل هذه الفرصة وكيف أنها نابعة من صميم الفكر الليبرالي وليست من أوهام يسارنا السوداني الرث بميوله الشمولية في شيوعي متحجرة لم تؤمن بعد بأخلاقية الفرد وعقلانيته.
التحول من مجتمع تقليدي الى مجتمع حديث يحتاج لنخب تهندس مثل هذه النقلات الهائلة ولهذا نقول أن المثقف العضوي الذي نحتاجه لمثل هذه الطبقات الصاعدة ليس من أتباع أحزاب اللجؤ الى الغيب أي أحزاب الطائفية وأتباع الحركة الاسلامية والسلفيين وليس من أتباع النسخة المتحجرة من الشيوعية السودانية بل مثقف عضوي زاده معرفة تاريخ الانسانية التاريخية والانسان التاريخي ليكون قادر على خلق إتفاقيات مع المجتمعات الحديثة وهي الآن تحتاج لموارد مقابل نقل خبرتها الصناعية لحيزنا التقليدي ولهذا نقول نحتاج لنخب مكافئة من ناحية مستوى الوعي لوعي عقل ورثة عقل الأنوار و بالتالي تكون الاتفاقيات مع الغرب في نقل خبرته الصناعية مقابل مواردنا التي تعشم في استغلالها مصر مسدودة الأفق فيما يتعلق بتحولها الى دولة صناعية ويكون مثقفنا العضوي مدرك لهذا العمل وليس كما يعمل الجاهل حميدتي في بيعه الذهب لكل من روسيا والامارات.
المثقف العضوي الذي يحتاجه سودان الطبقات الصاعدة الآن من جيل ثورة ديسمبر يعرف أن ليس لمصر والامارات و السعودية ما نحتاجه في سبيل نقل مجتمعنا الى مجتمع حديث لأنها ليس عندها ما نحتاجه من خبرة صناعية كما هو موجود عند الدول الغربية وهي الآن في صف ثوار ثورة ديسمبر مع أحرار العالم تساعد في إمكانية التحول الاجتماعي والتحول الديمقراطي ولذلك عندما نزيل إنقلاب البرهان الفاشل على النخب السودانية أن تفكر في التعامل بجدية في سبيل نقل خبرات الغرب الصناعية مقابل مواردنا وفقا لاتفاقيات تقودها نخبة مكافئة في وعيها لوعي نخب الغرب الحديث.
هذا يحتاج لتغير مفهومنا عن نفسنا وعن الغير في زمن أصبحت فكرة المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد تعني فكرة الضمان الاجتماعي وأن الديمقراطية قد صارت بديلا للفكر الديني أي لا يمكن تحقيق ديمقراطية بأحزاب دينية لأن الديمقراطية قد أصبحت بديلا للدين في زمن لم يعد للدين أي دور بنيوي على صعد السياسة والاقتصاد والاجتماع.
في زمن يتحدث الاقتصاديين وعلماء الاجتماع عن التقارب الطبقي والتضامن الطبقي والتصالح الطبقي وليس عن الصراع الطبقي كما يتوهم الشيوعي السوداني وبالتالي يمكننا التحدث عن ظواهر المجتمع بدلا عن الصراع الطبقي والفرد في علاقته بالدولة بدلا عن الطبقة حيث أصبح شأن الفرد في صراعه مع المجتمع فيما يتعلق بالحرية والعدالة والدين نفسه قد أصبح شأن فردي بين الفرد وربه.
كل ذلك يجبرنا على تغير عقلنا الجمعي التقليدي ومفارقته وهذا يجعلنا مجبرين أن نعرف مفهوم تاريخ الخوف وتاريخ الذهنيات الذي قد تجاهله المؤرخ السوداني التقليدي الذي إنشغل بفكرة الأصالة والحداثة في زمن قد قضت فيه الحداثة على جلالة السلطة وقداسة المقدس ونحن ما زلنا في سطوة مثقف تقليدي ومؤرخ تقليدي ومفكر تقليدي تشغله فكرة سلاسل الجحيم وكيفية الخلاص الأخروي.
عقل الخلوة المسيطر على النخب السودانية وقد ارتضت أن تكون في صحبة الاسلاميين وارتضوا أن يكون وهم مفكر اسلامي يجعلهم في مستوى عقل الاستعداد للانخداع من قبل الكيزان كما رأينا كيف خدع الكوز خالد التجاني مجموعة من النخب السودانية في لقاء نيروبي.
أتذكر جيدا عندما خدع الكوز خالد التجاني كل من كمال الجزولي ورشا عوض والنور حمد في لقاء نيروبي وقد أعطوه شيك على بياض في إستثمار الكيزان لفكر اللجؤ الى الغيب كنت أتسأل ألم يدري كل من النور حمد ورشا عوض وكمال الجزولي أن توكفيل قبل ما يقارب القرنيين قد قال أن الديمقراطية قد أصبحت بديلا للدين وأن الدين قد أصبح شأن فردي؟ وقد قال أن الكاثوليكية والكاثوليك كانوا كحال الكيزان اليوم وكحال أحزاب الطائفية يظنون أنهم بإمكانهم تحقيق ديمقراطية إلا أن توكفيل كان يقول لهم هيهات لأن الديمقراطية أصلا هي بديلا للفكر الديني وهنا ندعو النخب السودانية في التفكير في هذا المنحى أي أن الديمقراطية بديلا للدين ولا يمكن تحقيق ديمقراطية بأحزاب يرتكز فكرها على وحل الفكر الديني.
لهذا عندما فاجأت ثورة ديسمبر النخب السودانية قلنا لهم أن ما تركته الانقاذ من ركام يجب كنسه من أساسه وتأسيس فكرة الدولة الحديث بعقل جديد كان مفقود عند النخب السودانية ورأينا كيف تكالبوا على الوظائف والمحاصصة على سلطة ليست ذات علاقة بمفهومها الحديث فيما يتعلق بتارخ الانسانية التاريخية وعليه نقول لهم من جديد بعد إزالة إنقلاب البرهان الفاشل يجب أن تفكيك التمكين وينبغي التعامل مع الكيزان بلارحمة حتى لا يتركوا في مفاصل المجتمع ويعيقون تحركه نحو التحول الاجتماعي.
وبالتالي يعيقون التحول الديمقراطي. يجب أن تكون هناك تشريعات كبرى تجب ما تركته الانقاذ من سلطة قضائية فاسدة يدافع عن ديمومتها قانونيين سودانيين يمثلون أضعف حلقة في سلسة النخب السودانية. وأن يكون البنك المركزي سيد سياساته الاقتصادية وسياساته النقدية ومسيطر على بقية البنوك كبنك البنوك وزارة مالية مسيطرة على المال العام.
بعد توضيح ملامح الدولة الحديثة ليس للجيش أي دور لا في التجارة الخارجية ولا إستثمارات الشعب السوداني في الداخل لأن مسألة النشاط الاقتصادي من إختصاص اقتصاديين يعرفون كيف تطبّق النظريات الاقتصادية في سبيل خلق الثروة وإعادة توزيعها في ظل تحول هائل في مفاهيم البرجوازية الصغيرة بعد أن تعرف مفهوم المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد و هذا يحقق للفرد أدنى مستويات الدخل في حالة العجز و المرض بمعنى الا يترك فرد من أفراد المجتمع على قراعة الطريق حتى الأشرار كما يقول ديزموند توتو وعبر خلق الثروة وإعادة توزيعها ستكون ثورة ديسمبر قد بلغت مبتغاها.
وفي الختام ينبغي الحديث عن أن لحظة الانتصار لثورة ديسمبر التي تصادف تخلق العالم ليولد من جديد وعليه ننبه النخب السودانية لشئ مهم وهو أن العالم العربي والاسلامي متعود على تفويت فرصة البداية الصحيحة مع العالم كما رأينا كيف فوت العالم العربي والاسلامي لحظة نهاية الكينزية في مطلع السبعينيات من القرن المنصرم. وكيف سار العالم العربي والاسلامي باتجاه الخواء وكيف سارت شعوب العالم المتقدم باتجاه الحياة وما أكبر الاختلاف ما بين الخواء والحياة.
وإذا بالعالم الاسلامي يقع في فكر الصحوة الاسلامية التي فتحت على دمار العالم العربي والاسلامي حيث أصبح المجتمع الوحيد المقاوم للحداثة وكاره لعلومها والنتيجة خواء . عليه نقول للنخب السودانية عليكم أن تبدأوا بداية صحيحة مع عالم متجدد وفارقوا موروث النخب السودانية الفاشلة واستلفوا من تراث الانسانية المنتصر للحياة وبيننا وبينه ما يقارب خمسة عقود وهي لحظة نهاية الكينزية كديناميكية وبداية فكر الصحوات التي فتحت على عوالم الدواعش ومن لف لفهم. 

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..