الهوية بمنظور ثقافي

يمكن الانتباه إلى أن النظر إلى الهوية من منظور ثقافي تظل من الأبجديات التي فكر فيها السودانيون في مطالع القرن العشرين أثناء الاتجاه نحو تشكيل الإحساس بالدولة الوطنية، مع الحراك نحو التحرر من الاستعمار، حتى لو أن هذه “النزعة الوطنية” جاءت منقوصة ولم يتم التأسيس لها بالشكل الذي يؤهلها لبناء دولة معصرنة قادرة على التماهي مع شروط الدولة الكونية في عوالم النصف الثاني من القرن العشرين.
لقد نظر المثقفون الأوائل ومنذ ما بعد ثورة 1924 المعروفة باسم اللواء الأبيض، إلى الثقافة بوصفها علامة فارقة لإحداث التغيير والانتقال إلى الفجر المنشود، واستخدمت الثقافة كمرادف للتنمية والنماء والتطوير والتحديث، وربما تكمن هناك تساؤلات حول السبب الذي جعل النظرة تدور حول المضامين الثقافية وليس السياسة بادئ ذي بدء، هل هو نوع من عدم الدخول المباشر في صراع مع المستعمر، أم أن ثمة أسبابا أخرى تتعلق بالتعليم المستورد من الشمال المصري. ولكن بشكل عام فإن هؤلاء المثقفون الرواد سرعان ما اندغم أغلبهم في الحراك السياسي لاحقا بمعنى التفكير في شكل الدولة ومستقبلها، وقد تجلى أوضح مثال على ذلك في صورة محمد أحمد المحجوب الذي كان قد جمع بين خاصية المثقف الأديب والسياسي، وهذا التيار صارت له عمومية لاحقا في مزج المنظور الثقافي بالسياسي، حيث يمكن الحديث عن تداخل بين العالمين في الميراث السوداني الفكري. وربما هذا يفضح سؤالا حول: هل يمكن الحديث عن تصورات مستقبلية للسودان أو تطوير للفكر السياسي سواء عبر “الميتاسياسة” أو غيرها من أنماط حديثة، دون وضع مفهوم الثقافة في الاعتبار. ليس لأن ثمة حنين إلى الماضي أو الأمس، بل لأن جذور التراث قائمة فينا، فالشخصية السودانية النخبوية إن جاز التعبير هي مركبة على هذا الشيء، في أنها تأخذ بالبعد الثقافي هذا في القراءة والتأويل ومحاولة إدراك فحوى الوجود والحراك الإنساني حتى للفعل السياسي في كثير من الأحيان، كما أن بعض من المفكرين إن لم يكن أغلبهم لم يهدأ باله وإلى الألفية الجديدة من إنتاج فكر ثقافي أو نمط معرفي بمعزل عن الإطار السياسي. وهذا يجعل مشكلة السودان كأنها مشكلة ذات غلاف سياسي ولكن لبها ثقافي، ويعني ذلك أكثر أن التفكير في المستقبل يجب أن يعطي اعتبارا بدرجة كافية لفهم أنساق الحياة السودانية من هذا الباب.
إن الجيل الأول، أو الرائد من مثقفي السودان، وهو اصطلاح عام لأولئك الذين قادوا التغيير في النصف الأول من القرن العشرين، كان يقوم على نظرة ذات أبعاد متعددة ومتنوعة للحياة بغض النظر عن العمق أو التعزيز المعرفي القوي داخل هذه النظرة، ولكن جوهر هذا ارتبط بالثقافة في كونها محرك الحياة الجديدة والفاعلية نحو بناء الأفضل للوطن، بل هي دفة التنمية المنشودة، وهذا يقود إلى أن فكرة التحرر الوطني كانت متعلقة بالتحول في المفاهيم الثقافية ولكن هذا كان قاصرا لغياب العمق والانكفاء على المنظور الضيق لماهية الثقافة ولم يمض إلى التجذير العميق لوعي التراث والموروث والأنا العميقة التي لها جذرها التاريخي البعيد، وهو ما جعل هذا الحراك والرغبة في التغيير يبدو كما لو أنه حراكا سطحيا يقوم على الأثر لا التأثير وعلى الأخذ والنقل لا التأصيل وردة الفعل المؤقتة لا قوة الفكرة والمركزية في الأفكار بمعنى أنها تأخذ طابع المعرفة المؤسس لها.
إن الإحساس بالفقر الثقافي وأن الطريق طويل لدى الأجيال الأولى كان قائما لدى البعض في حين افتقده آخرون ربما بطابع التجاهل أو الإحساس بالذات غير العارف، أو أنهم كانوا يفكرون فيما يسمى بالخلاص الفردي هذه الآفة التي أصبحت لاحقا هي المُوجِّه المباشر والمستمر في تحريك الذهنية السودانية إلى اليوم، حيث أن النخب والناس التي من المفترض أن لها التأثير والأثر باتت لا تحمل أي هاجس باتجاه الانتماء المؤثر الذي يضع له لبنة في البناء الوطني بعيدا عن تدبيج الأقاويل أو البكائيات. وقد انتبه الأديب محمد عشري الصديق مبكرا (1925) في مقال سطره بعنوان (ما وراء الأفق) نشر بجريدة (حضارة السودان) في 30 أكتوبر من ذلك العام، إلى أن البلاد تفتقد للأساس المعرفي والعلمي وأن ثمة تحديات جسيمة في بلد لم يورث أهله غير الحروب، ويبدو أن ذلك ظل “قدرا” مستمرا.
كتب عشري: “ولا نزال فقراء في الروح مهازيل مسنين عجافا ضائعين بلا مال أو كيان لا تاريخ لنا ولا فنون ولا آداب أو علوم ولا صناعات أو حرف. ولا يزال عظماؤنا هم عظماء الفتك والحروب والتدمير، فلا شاعر ولا فيلسوف ولا كاتب ولا فنان ولا مصلح يلاقيك في تاريخ هذه البلاد، وليس بيننا من يعد من رجال العلم أو العمل. وليس للسلم عندنا من انتصارات كما للحرب، وأرضنا سهلة واسعة جدباء ليس عليها من آثار العبقرية والنبوغ إلا النذر اليسير”.
ويرى محمد عوض غبوش في كتابه “السودان الحديث.. البحث عن طريق” (مركز عبد الكريم ميرغني ? ط1 ? 2013) أن عشري يشير إلى أن “الثقافة السودانية تمجد البطولة والشجاعة أكثر مما تمجد العلم والفكر والفنون وما ينتج عن هذه الأجناس الإبداعية من ابتكار واختراع واكتشاف”، ويذهب غبوش إلى أن من إشكاليات الذهنية السودانية ظاهرة التلقي والتقليد بالإضافة إلى عدم انفتاح الإنسان السوداني بطريقة جريئة وعقل منفتح على الحضارات الكبرى الأخرى منذ القدم.
ويفتح ما سطره قلم عشري مبكرا العديد من الجراح التي لم تنكأ بعد، بل هي ذاتها والألم نفسه يتجدد، فإلى اليوم كأن المشهد نفسه لم يتقدم “قيد أنملة”، ما زلنا نراوح المسافات القديمة من التدوير والتمجيد الباطل، وما زالت، تنزف الأسئلة والغياهب ذاتها، ما يعني أننا لم نخرق مساحة الزمن ولا التاريخ لكي نقترب من فهم الذات بالدرجة التي تمكن من الانتقال إلى مرحلة جديدة تتجاوز فكر الشجاعة والتمجيد والحروب التي لم تسكن بعد. ولنقل أنه في تلك السنوات المبكرة كان الطريق ما زال غير واضح وأن البدايات لم تتبلور، لكن المشكل إلى الراهن، يتعلق بالنمط والبناء العام الذي يكاد يكون هو نفسه تماما رغم أن الفارق الزمني يقترب من القرن.
وما سطره عشري يفتح بدرجة أكثر ملموسية سؤال الثقافة والهوية والسياسة والإنسان، وهي مسائل متشابكة ومعقدة أيضا إلى اليوم لم نفرز منها إلا اليسير وربما لم يحصل ذلك أساسا. ما يعني ضرورة المزيد من المساءلات لإبعاد البطولة والشجاعة الزائفة واستبدالها بالمعني الحقيقي لأن تكون شجاعا بأن تقترب من مساءلة واقعك وتعمل على تطويره بدلا من الاستناد على مرويات الأمس والذات المشروخة بفعل الضيق النفسي التاريخي القائم على صراعات ليس لها من محركات أو محفزات سوى مسائل أصبحت من قيم التاريخ المتكلس، الذي علينا أن نسرع لغسله لكي نكون أكثر اقتربا من معادلة لحياة جديدة.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. السلام عليكم وانت تلمس الجرح

    لماذا نمجد الشجاعة فى الحروب ؟؟ نرجع للمجتمع القبلى الذى يعتمد فى حفظ تاريخه على التناقل الشفهى.
    نحن شعب نعتمد اساسا على اثارة العواطف اكثر من اثارة الجانب العقلانى .. تبدأ من حجاوى الحبوبات ، طريقة التلقين فى المدارس وخاصة مادة التاريخ وتتعمق بممارساتنا فى الونسة العامة والتى انعكست حتى فى تعابيرنا فى استعمال الصفات المطلقة وليس النسبية اثناء الحديث .

    انتهت فترة ان الدولة تقوم على الرئيس او الوزير .. بلجيكا من غير حكومة لمدة زادت عن السنتين ولم يشعر المواطن باى تغيير فى حياته اليومية .. ﻷن اﻷمر وكل الحل والعقد يعتمد على المؤسسات. فنهضة الدول ﻻ تقوم على اﻷشخاص ومستوى تعليمهم. ماذا درس لوﻻ دا سيلفا فى البرازيل ؟ وفانيسيا عامل المناجم فى بولندا؟ وشاوسيسكو فى رومانيا؟

    نرجع للمؤسسات واهم مافيها هو دور العلم والبحوث وربطهم بحلول مشاكل البلد .. فمعظم مشاكلنا تحتاج اوﻻ للبحث فى العلوم اﻹنسانية قبل العلوم التقنية ، لأن فى المجال التقنى يمكنك ان تبدأ من حيث انتهى اﻵخرون . اما بناء اﻹنسان فلكل دولة خصوصياتها لبناء انسانها.

    ودمت اخى

  2. تحية لقلمك، فإن به أريحية، و سمح سماحتنا نحن السودانيين…آااي.

    ما قال يه العشري، قول الهجس، الصاحي،أراد به إيقاظ النائمين، و الغافلين، لكنهم ( لسة ما حسوا)، كما قال شاعر أفريقيا: إفريقيا استيقظي، من نومك الأسود. لكنه على كل حال(قول العشري) فيه شيء من المبالغة، خصوصا آنذاك.

    و كما قلت أنت، نعم، ثقافتنا ليست عميقة، و لذلك سبب، أنها ثقافة، في مجملها قولية، أي تنظيرية، يعني بتاعة كتب و كدة(حتى لو هضمها المثقف)، و هي تكون عميقة لو توفر شيئان للمثقف بالإضافة للمعلومة( المعرفة)، هما المسئولية، و الواقعية. و نقصد بالمسئولية، ممارسة الفعل ليطابق القول. ممارسة يومية بإلتزام و صدق. و الواقعية هي تحريك الماضي إلي رقعة الآن الذي يستشرف مستقبل آت، بمعني مثلا أن ثقافة الشجاعة، و الفخر بالقبيلة، ليست مرفوضة في وقت مضى، بل كانت أفضل ما يعبر عن تسامي القيم، و لكنها ارتبطت بواقع جاهلي بمفهوم اليوم. و بمعنى آخر فأن القميص القديم كان جديدا و لامعا يوما ما. هذا معني الواقعية أي النظر بعدة زوايا ومستويات لمسألة سير التاريخ و ربطه بالغايات التي من أجلها نحن( الناس) هنا، و إلي أين نسير.

    فغاية الانسان الذي أن يأكل (لأنه واقعه المادي كدة)، غير الذي يريد أن يقطن منزلا جميلا، غير الذي يريد أن يسمع الشعر و القصيدة. فحركة الواقع تفرض أشياء جديدة كل يوم. هذا عن الواقع المتحرك الذي فيه (( إنتاج)). أما الواقعيات القاعدة، المتناومة، المستهلكة فقط( يعني المتفرجة)، فإنها تراوح محلها و إن مر الزمن. تأكل و تنوم، و تعمل عمل الديك. و ليس كلنا ديوك، فإن فينا أسود تعاف الجيف.

    يا عزيزي، دعنا لا نسبق المشيئة، كل ما يحدث محسوب بدقة متناهية. فلهذا الكون مدبر حكيم، ربما لو أتبعنا القول بالفعل(ذاك هو المثقف) يحق الوعد فينا، فالأرض يرثها الصالحون.

  3. عماد…تحياتي
    في إعتقادي إرتباط أو تلازم إختلافنا بجهلنا وأميتنا ما أوصلنا لما نحن فيه…، قوتنا وجمالنا في إرتباط وتدعيم إختلافنا بعلم ومعرفة…،
    لكي يكون لنا عظماء آداب وعلوم وصناعات وحرف وفنون وشعراء وفلاسوفة وكتاب وفنانون، ولكي يكون بيننا رجال علم وعمل ودين وفي أرضنا آثار العبقرية والنبوغ ……، لا بد لنا من ألعلم وألعلم وألعلم … إقرأ أول كلمة أُنذلت لنبينا صلى الله عليه وسلم, وبألعلم نبدع في أرضنا ألسهلة ألواسعة، ونورث عبقريتنا ونبوغنا لمن سبقناهم…..أحترامي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..