مقالات وآراء سياسية

قضايا استدامة الديمقراطية: الطائفية السياسية (1)

محمد الأمين أبو زيد

لا يوجد مجتمع من المجتمعات الإنسانية، منسجما انسجاما تاماً من حيث التكوين، سواء العرقي، أو الديني، أو الطائفي… الخ، وفى كثير من مراحل التاريخ تنتج هذه الاختلافات صراعات عرقية، أو طائفية، أو مذهبية، تؤدي بتفكك المجتمعات، وتفتت نسيجها الاجتماعي، وتسميم أجواء التعايش والتدامج الوطني.
تمثل الطائفية السياسية إحدى تحديات التحول الديمقراطي، لا سيما عند انتقالها من مفهومها العام، من تواجدها على مستوى الأفراد داخل المجتمع الواحد إلى التمثيل السياسي للطوائف، وتجسيدها في مستوى الدولة الحاضنة للجميع.
تعرف الموسوعة السياسية الطائفية (نظام سياسي، اجتماعي، متخلف يرتكز على معاملة الفرد جزءا من فئة دينية تنوب عنه في مواقفه السياسية)..
من المهم التفريق هنا بين الطائفة والطائفية، فالطائفة هي مكون اجتماعي ديني داخل المجتمع، أما الطائفية هي سلوك تعصب سياسي، بين أبناء طائفة واحدة تجاه الطوائف الأخرى.
اختلف علماء الاجتماع السياسي في الموقف من الطائفية السياسية إلى اتجاهين:
1- اتجاه يعتبرها عامل هدم لمشروع الدولة الوطنية، وورقة يعتمد عليها الاستبداد السلطوي في التهديد بالحرب الأهلية..
يرى د. برهان غليون في كتابه المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات، الصادر عن دار الطليعة (اعتبر الطائفية منتمية إلى مجال السياسة لا إلى مجال الدين باعتبارها تعني مجموعة الظواهر التي تعبر عن استخدام العصبيات الطبيعية الدينية والإثنية والزبائنية).
2- اتجاه اخر يرى إن الطائفية نظام قانوني، يناسب الدول متعددة الإثنيات، والطوائف، ويرى إنها مكون أساسي للنظام السياسي، والاجتماعي، تؤمن التوازن السياسي.
 ويعتقد مناصري هذا الاتجاه إن الديمقراطية التوافقية التي تمنح القوى المعبرة عن الطوائف امتيازات سياسية، كما في لبنان مثلاً، هي طريقة مثلى لحفظ التوازن السياسي، والاجتماعي، والوحدة الوطنية.
لكن السؤال هل الواقع كذلك وهل التجربة أمنت ذلك؟ في لبنان تحديدا؟
إن من المسلم به أن عورات الطائفية السياسية بائنة لا تخطئها العيون:
– فهى كيان يعزز الولاء الطائفي، ويقويه على حساب الولاء الوطني، القائم على المواطنة المتساوية، والارادة المستقلة..
– تحقق مصلحة جزئية خاصة سياسيا واجتماعيا.
– تعارض مفهوم العقد الاجتماعي، والمساواة، والتعايش المشترك، بتغليب الولاء الوطني بالانتماءات الضيقة.
– التعبير عن نقص الاندماج الوطني والانصهار الاجتماعي.
– تساهم في تفتيت كيان الدولة وتظل مفرخة للاستبداد.
– ظلت الظاهرة الطائفية مرتبطة بالتوظيف الاستعماري قديما وحديثا..
ترتبط قضية الطائفية السياسية دوما بالاستقرار السياسي، فاذا كان الاستقرار السياسي يعنى التعامل بنجاح مع الأزمات، والصراعات، وهذا يتطلب عدة مؤشرات منها حكومة مستقرة، ونظام سياسي مستقر، ودستور دائم، وقرار سيادي، واستقرار اقتصادي، وقبول شعبي… الخ.
إن هذه المؤشرات ظلت تفتقدها تجربتنا السياسية الديمقراطية، حيث سيطر عليها التوازن الطائفي السياسي، الأمر الذي يقتضي التفكير مستقبلا في بناء تجربة ديمقراطية جديدة وفاعلة، تؤمن تمثيل الفئات الحديثة، وقطاعات المجتمع بناءً على قانون انتخابات عادل، ومنصف، يؤمن تمثيل حقيقي لقوى التغيير اجتماعيا وسياسيا.
من الجوانب الفارقة في تاريخ السودان، إن الحاضنة  السياسية التي نشأت من خلالها الأحزاب السياسية في السودان، مؤتمر الخريجين الذي تشكل في (نهاية الثلاثينيات) 1938، من المتعلمين، لم يتطور إلى حركة مدنية سودانية حديثة، وسرعان ما انفرط عقده قبيل الاستقلال، متوزعا بين طائفتي الختمية، والأنصار، وواقع تحت تاثير قيادتهما الطائفية من خلال الرعاية السياسية لزعامة الطائفتين، حيث تتوزع الجغرافيا الديمغرافية للسودان نفوذ الطائفتين، عدا جنوب السودان، نسبة لظروف العزلة الاستعمارية التي مورست عليه.
يبدو أن المصلحة الاستعمارية عملت على استغلال الظاهرة الطائفية لبناء حركة سياسية تقليدية، مرتبطة بتمثيل المصالح الاقتصادية والاجتماعية للزعامات التقليدية، وزعماء القبائل، وبالمصالح الاستعمارية، بينما ترزح الغالبية المطلقة من جماهير هذه الطوائف في الجهل، والتخلف، والأمية، كرصيد انتخابي مسلوب الإرادة، وخاضع لتأثير الزعامة القبلية والدينية.
هذا الوضع المختل والشائه في تكوين الحركة السياسية السودانية، بالإضافة إلى حالة التخلف الاجتماعي، وانقطاع التطور الديمقراطي لفترات طويلة لصالح فترات الاستبداد السياسي، وضعف تاثير التيارات الحداثوية، جعل من الظاهرة الطائفية ذات حضور، ما يزال مؤثرا في واقع الحياة السودانية، متحالفا مع نوازع التطرف الديني، التى برزت مؤخرا، مما يعتبر أحد معوقات التحديث والتنمية كلازمة للتطور الديمقراطي، حيث تلزم الديمقراطية مرحلة تنويرية، وثورة تعليم، وهو ما ظل مفتقدا.
لقد استطاعت ثورة ديسمبر كثورة شبابية أن تخرج من عباءة التأثير الطائفي السياسي، وحتى المنتسبين للأحزاب الطائفية من الشباب عبروا عن تطلعات متجاوزة لتفكير الزعامات التقليدية.
هذا مؤشر وعي جديد، ستكون له انعكاساته المستقبلية على التأثير السياسي للطائفية، وبناها القديمة على مستقبل التجربة الديمقراطية، وعلى آليات التحديث والاصلاح الحزبي اللازمة.
محمد الأمين أبو زيد
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..