مقالات سياسية

*الإستماع بالعين واستنتاجات أصم*

*الإستماع بالعين واستنتاجات أصم*

*ضياء الدين الشريف*

*مقدمة اولى*

الرحمة والمغفرة للموسيقار وتاج السودان محمد الأمين الذي كتبت عنه هذا المقال قبل سنوات طويلة واعيد الأن نشره تخليدا لذكراه ويا للفاجعة حينما يصبح رمز كمحمد الأمين ذكري تسكن القلوب

*مقدمة ثانية*

أما وقد هدأت عاصفة اللوم والتقريع التي انهالت على رأس الموسيقار المبدع محمد الأمين بسبب انفعاله على جمهوره وطلبه منهم الكف عن الغناء معه وتركه يغني لوحده أو يغنون هُم فقد رأيت إعادة نشر مقال كنت قد كتبته في الليلة الثانية لعيد الفطر 2010 تحت وقع انفعالات أصابني بها محمد الأمين في مقتل ونشرته جريدة الأمكنة التي تصدر بعاصمة ولاية الجزيرة في عددها 126 بتاريخ 12 سبتمبر 2012 وقد أرجأت نشر المقال لأنني كمحمد الأمين لا أحب الظهور وسط الصخب والضجيج ولأنني أردت أن يُقرأ المقال بعيداً عن الضجة التي أثارها موقف محمد الأمين من جمهوره وقتها ولأن المقال نفسه يشبه إلى حدٍ كبير تصرف محمد الأمين نفسه فإلى المقال

الزمان : مساء اليوم الثاني لعيد الفطر المبارك 2010

المكان : مدينة صُرمان الليبية غرب العاصمة طرابلس

رأيت محمد الأمين يغنى في التلفزيون السوداني فأغلقت الصوت تماماً لأرى كيف سأتفاعل معه بالصورة فقط وهي عادة ألجأ إليها أحياناً لأحكم على اللحن والأداء من خلال ما تعكسه لي الكاميرا من تفاعلات الروح على الوجوه التي تعكس هذه التفاعلات بتعابير شتى.

أبدأ بمحمد الأمين نفسه فتبهرني أناقته البسيطة، والأناقة كما تعلمون لا تعكسها الملابس الفخمة والفارهة التي تصل أسعارها إلى أرقام فلكية ولكن يعكسها الشخص نفسه بما يرتديه من ملابس مهما كانت بسيطة ورخيصة الثمن ولعل الانطباع الأول الذي يتكوّن لدى الناس وهم يرون شخصاً يبدو متأنقاً هو أن هذا الشخص أصيلاً في أناقته أو هو حديث عهد بالأناقة، وقد بدا لي محمد الأمين كما لو أنه نشأ في بيت عزٍ وجاه فهو أيضاً كان يلتزم باصول البروتوكول والتهذيب المُطلق وكان الرجل يتعامل مع الاغنية كعمل في المقام الأول..عمل ليس كالأعمال الاخرى، عمل يتم الإعداد له بجهد وعرق وبروفات متواصلة ليُعرض أخيراً أمام الناس مباشرة وعلى الهواء ليحكموا عليه وإذا كان هذا الحال مع أُغنية واحدة فتصوروا مسيرة طويلة امتدت لعشرات السنين والأغاني والألحان لذلك كان يبدو جاداً في أدائه للعمل ولكنها جدية من يؤمن أنه يُؤدي عملاً مقدسا ونبيلا أمام مستمعين ومشاهدين تحولوا وبرمشة عين ومنذ انبعاث النغم الأول إلى لجان تحكيم.

في لقطات تصويرية متتالية بارعة ومنسجمة تنتقل الكاميرا ما بين الجمهور المنبهر بروعة الأداء والفرقة الموسيقية المنهمكة في أداء عملها بجدية بادية على وجوه أعضائها ثم إلى ضيوف البرنامج في الخلف وهُم من هُم وقد كتموا الأنفاس يستمعون إلى محمد الأمين، ثم إلى محمد الأمين ووقفته التي توحي بأنه يحترم العمل الذي يؤديه ويحبه لدرجة الوله والذوبان ـوكم مرة رأيتم دموعه تسيل أثناء الغناءـ حباً وعشقاً وولهاً وإحساسا صادقاً يتجلى في اهتزازات رأسه وتقاسيم وجهه وابتسامته التي عكست ما يجيش بداخله من نشوة وطرب أوصلته لحد الفرح المطلق الذي يجعله يلتفت إلى الفرقة الموسيقية يشير إليهم بيده ويهز لهم رأسه مستحِثاً إياهم على العمل فيهزون رؤوسهم فرحاً ويدب فيهم النشاط وكأنهم يوشكون على التحليق فينظرون إلى بعضهم البعض وهُم يبتسمون وملامح الرضا والفرح تبدو على وجوههم ما جعلني أستنتج أن هذه الشريحة من الناس ـ أهل الموسيقى ـ هُم أكثر شرائح المجتمع استقراراً في حياتهم العائلية والاجتماعية فهم يتقاضون أجراً عن عمل يجرى في دمائهم ولا يتصورون العيش بدونه ولو فُرض عليهم أن يدفعوا ليمارسوا هذا العمل عِوض أن يُدفع لهم لما توانوا عن الدفع في اعتقادي لذلك أرى أنهم أسعد الناس حظاً بأن جعل الله لقمة عيشهم في عمل يحبونه وكان هوايتهم وهوى نفسهم فأستحضر الحديث الشريف ((إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه)) والرسول (ص) يعلم أن الله يعلم أنه ما من أحد يستطيع أن يبدع أو يتقن عملا إن لم يكن يحبه وهذا هو المعنى والمغزى لحديث رسولنا (ص) فهو يُوجه إلينا رسالة مفادها أن نسلك في حياتنا العملية المسلك الذي نهواه ونحبه والذي حلمنا بأن نسلكه منذ أن كنا أطفالاً صغارا نحلم بأن نكبر لنصير كذا وكذا.

ثم تنتقل الكاميرا إلى الجمهور الذي يمد يديه ولاءاً وتسليما لهذا الفن الذي استنتجت أنه متكامل كلمة ولحنا وعزفا توجهم حضور طاغٍ لفنان استطاع أن يقودهم إلى سياحة في آفاق روحية واسعة استطاعت الكاميرا أن تصورها بلقطات سريعة متتالية بين الجمهور والمطرب ما جعلني أستنتج أن المُصوِر حامل الكاميرا يحلق هو الآخر وراء هذا الفن الجميل محاولا الإمساك به، ثم تعود الكاميرا سريعاً لتختلس ملامح الزهو والاعتزاز من وجه محمد الأمين وهو يحصد ثمرة نجاحه.

يتوجه أبو اللمين كما يحلو لنا نحن السودانيين أن نسميه ـ يتوجه ـ إلى العملاق محمد وردى يهمس له ببضع كلمات ثم يحتضنه ويقف وهو يواصل غنائه فيقف وردى والاستاذ علي شمو والمذيع المتميز الطيب عبد الماجد متفاعلين معه في لقطة مؤثرة تجعل ملامح محمد الأمين تفيض بالامتنان ما جعلني استنتج انه يشكر الله في أعماقه على هذه المحبة المتبادلة.

ثم انتقلت أنا من التلفزيون ومن محمد الأمين إلى نفسي وكأنني ليس أنا، نظرت إلى نفسي على أنني شخص آخر يرى ولا يسمع ما جعلني استنتج أن الصُم يحلقون على قدم المساواة في هذه السياحة الممتعة مع أُناس يتفوقون عليهم بحاسة السمع، يحلقون معهم ويستمتعون مثلهم ويستنتجون مثلي ما يجعلهم يتفاعلون مع اللحن والآداء مثلهم مثلي ومثلك أيها القارئ سواءاً كنت سليماً أو أصم أو أعمى فبإمكان الأعمى أيضاً الرؤية بأُذنيه أحيانا.

الاستنتاج ما قبل الأخير :

إذا كان هذا الكم من فيض الأحاسيس والمشاعر والتفتح الذهني والروحي الذي أوصلني إليه محمد الأمين بالصورة وبأُغنية واحدة فقط فكيف الحال إذا صاحبت الصورة الصوت مع وجود عملاق آخر هو محمد وردى مع ما أعانيه أصلاً من حزن مقيم وشجن كامن وحنين متأصل وشوق متجذر إلى أهلي ورائحة تراب بلدي خصوصاً وأنه العيد السابع والثلاثون على التوالي الذي يمر عليّ وأنا خارج الوطن بعيدا عن الأهل والأحباء فاستنتجت أنني لو فعلت واستصحبت الصوت فستتحول حالة البكاء والنشيج المكتوم إلى حالة هياج عصبي قد تقضي عليّ، ورغم هذا الاستنتاج وقناعتي به وجدت يدى تمتد رغما عنى إلى الريموت وقبل أن أضغط بإصبعي على مفتاح الصوت طرق الباب ودخل عليّ مجموعة من الأصدقاء من جنسية آسيوية أخرجوني من داخل التلفزيون وإن لم يخرجوني كلياً من الحالة التي أدخلني إليها محمد الأمين.

الاستنتاج الأخير وفروعه :

أستنتج أن محمد الأمين إذا قرأ هذا المقال الذي لن أقوم بنشره إلا بعد عيدين آخرين أو ربما ثلاثة حسب ما أستنتج فسيذهب إلى مكتبة التلفزيون باحثاً عن هذه الحلقة التي أتحدث عنها، وأستنتج أنه سيحاول الاستماع إليها من غير صوت، واستنتج أنه سيستمتع أيما استمتاع، وأستنتج أنه سيعود مرة أُخرى لقراءة هذا المقال ليستمتع بحبنا له.

استنتاج خارج السياق :

أستنتج أن بعض القراء سيحاولون استنتاج الحالة المزاجية التي كنت فيها وما زلت أحس بها وأنا أكتب الآن رغم مرور ساعتين وهذه حالة يصعب شرحها وتذكرني بقصة مكتشف الكهرباء الذي طلبت منه صحافية أن يشرح لها اختراعه فتحدث كثيراً ولكن الصحافية لم تفهم شيئاً مما قاله فأجلسها على كرسي موصول بتيار كهربائي مُخفف فصعقت الكهرباء الصحفية التي انتفضت مذعورة وهي تصيح: ما هذا؟ فأجابها: هذه هي الكهرباء فاشرحيها لقرائك.

لذا أقترح على كل من يحاول الاستنتاج أن يوفر استنتاجاته ويخوض التجربة بنفسه

*ضياء الدين الشريف*

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..