في ذكرى ميلاد الطيب صالح

أيها الغريب، يا من شراعه حاذى طويلاً شواطئنا، ويُسمع أحياناً في الليل صريرُ بكراته.

هل ستقول لنا ما بليتك ومن يدفعك، في أكثر المساءات دفئاً، لكي تهبط بيننا على الأرض الأليفة؟» (سان جون بيرس، منارات، ترجمة: أدونيس، المدى، دمشق 1999).

كان ذلك أول وآخر لقاء لي بالطيب صالح

أتذكره الآن…

لا كمن يطالع صورة في مرآة.

بل كمن ينظر إلى ملامح قريبة عبر عين فاض بين رموشها الحنين أو يكاد.

كان قد جاء إلى القاهرة لإلقاء محاضرة في الجامعة الأميركية.

وكان ذلك حدثاً فريداً في حياة بعض أولئك المنفيين الذين أخذوا يدركون بنوع من الأسى أن وجودهم في تلك المدينة لم يعد في الأخير سوى محاولة بائسة لتوسيع مساحة السجن في دواخلهم.

ما أثار دهشتي وقتها أنه ظل يستقبل الناس عند مدخل تلك القاعة الدراسية، كما لو أنهم كانوا يتوافدون إلى رحاب داره الخاصة.

لكأن لوحاً من زجاج يتهشم في قلبي.

كانت تبدو على مُحيّاه بوضوح تام، الخطى الأخيرة للنهر نحو مصبه، الآثارُ المتبقية عند الحواف الرملية بعد موسم الفيضان، هدير الموج على شواطئ جزر بعيدة ونائية لاحت في ذاكرة بحّار متقاعد، وتلك العلامات التي يخلفها الزمن بين عيني كاتب أشقته عادة أن يجلس على حواف العزلة الحزينة المعتمة… يتأمل مصائر… حيوات آلت إلى زوال… وإحساس بقبلة اشتعلت في فم عـاشقيـن عـاشا قـبـل ألف عــام وهما يـحلمان بـقــبـلة أخرى لن يرتشفا رحيقها المختوم حتى الممات.

«ريشة بيضاء في الماء الأسود، ريشة بيضاء في اتجاه المجد».

«سببت لنا فجأة هذا الألم الكبير، لأنها بيضاء إلى هذا الحد ولأنها كذلك، قبل المساء…».

سعت إليه سيدة مصرية على مشارف الثلاثين، كانت جميلة كما لو أنها تضرعت إلى الله لحظة الخلق أن يوجدها على مثال ولا أروع. كان كل شيء فيها يغري بالعناق. وقد وشى عن تاريخ عريق من «التغذية الجيدة»، كانت تخاطبه بلغة إنكليزية ذات لكنة أميركية سليمة، تطلب توقيعه على عمل مترجم له. فجأة، أخذ يتقمص دور «عطيل»، وقد بدا مثل شخصية خارجة للتو من كتاب «موسم الهجرة إلى الشمال»، قائلاً بإنكليزية ذات لكنة سودانية خالصة: «على الرحب والسعة».

لسبب ما، أذكر هنا ما حكاه كازنتزاكي من أن جدّه الذي بلغ من العمر عتياً وقتها، كان يتربص عند بئر القرية بالحسناوات الصغيرات، يتلمس فاكهتهن بيدين مرتعشتين، عيناه دموع، لسانه مرارة، وهو يتحسر على نفسه، قائلاً إنه لا محالة سيموت في القريب، تاركاً من ورائه كل هذا الجمال الذي لن ينعم به قط.

هناك، داخل القاعة ذات الدرجات الخشبية المتصاعدة، بدأ يخاطب الحضور بإنكليزية لم تتخل عن تلك اللكنة الأليفة: «الكتابة عملية شاقة وعسيرة، أجل، ذلك أمر من الصعوبة بمكان: أن تغوص بعيداً في أعماق نفسك كيما تخلق عالماً من خيال. ربما لهذا لم أكتب كثيراً»…

البعض يجيد لعب الدور ككاتب، مثال ذلك همنغواي، لعب دور الكاتب بصورة متقنة وجمع مالاً من هذا العمل، لكن بلزاك الذي أفضله لم يستمتع بالدور.

كانت حياته تعيسة. يبدأ الكتابة ليلاً وينام نهاراً. أجدني هنا أقرب إلى يحيى حقي، يكتب فقط حين يأخذه المزاج، يحيى كاتب يضج بالحياة والإنسانية.

صديقي يوسف إدريس، حاول أن يبتلع قطعة «غاتوه» دفعة واحدة فاختنق ومات، قابلته مرة في بغداد. بدا غاضباً لأنه كان يشعر أنه أحق بجائزة نوبل من نجيب محفوظ…

كنت أسمع… أنصت… أصغي… أرهف… وأرخي أذني لكل ذلك الأسى وهو يفيض من بين كلماته الأخيرة: «لو تبقى لي شيء من العمر لأكملت ثلاثية «بندر شاه».

عبدالحميد البرنس
[email][email protected][/email] * نقلاً عن “الحياة” اللندنية يوليو 2009

تعليق واحد

  1. كتابة شائقة بل هي قصيدة في حق اديبنا الاكبر نقلناها لموقعنا في فسبوك لفائدة مائتي صديق نفترض كريم الموافقة

  2. الكتابة عملية شاقة وعسيرة، أجل، ذلك أمر من الصعوبة بمكان: أن تغوص بعيداً في أعماق نفسك كيما تخلق عالماً من خيال. ربما لهذا لم أكتب كثيراً»… ;كلمات عبقري

  3. صديقنا الذي في ورق السماء .

    كان حضورك بهياً مثله ، وكما قال ” الطيب صالح ” :
    ( يوجد هنا من أهل وطني السودان من يكتبون في القص أفضل مني ، بس تمُد يدك وتقبض من تشاء تجده فوق ما تحتسب .)
    ليل العاشقين طويلُ ، كان شخصية مُفرِطة الكرم . يستأنس بصحبة الأحباء ، ليس فيه ” ذرة من كِبر ” . جلس لمدة شهر في إسبانيا
    و كان برفقة حانية القلب طروب . سطّر هناك موسوعته القصصية ” موسم الهجرة في الشمال ” .
    يستحق ” الطيب صالح “الدلال من كاتب يرمق الآداب وأهله بحفاوة .شكراً لك

  4. كتابة شائقة بل هي قصيدة في حق اديبنا الاكبر نقلناها لموقعنا في فسبوك لفائدة مائتي صديق نفترض كريم الموافقة

  5. الكتابة عملية شاقة وعسيرة، أجل، ذلك أمر من الصعوبة بمكان: أن تغوص بعيداً في أعماق نفسك كيما تخلق عالماً من خيال. ربما لهذا لم أكتب كثيراً»… ;كلمات عبقري

  6. صديقنا الذي في ورق السماء .

    كان حضورك بهياً مثله ، وكما قال ” الطيب صالح ” :
    ( يوجد هنا من أهل وطني السودان من يكتبون في القص أفضل مني ، بس تمُد يدك وتقبض من تشاء تجده فوق ما تحتسب .)
    ليل العاشقين طويلُ ، كان شخصية مُفرِطة الكرم . يستأنس بصحبة الأحباء ، ليس فيه ” ذرة من كِبر ” . جلس لمدة شهر في إسبانيا
    و كان برفقة حانية القلب طروب . سطّر هناك موسوعته القصصية ” موسم الهجرة في الشمال ” .
    يستحق ” الطيب صالح “الدلال من كاتب يرمق الآداب وأهله بحفاوة .شكراً لك

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..