مات الكنار مغرداً..!

شمائل النور
عدّت سنة..قطعاً لن تنتهي ظاهرة محمود عبد العزيز بوفاته،ليس لأنه فقط فنان فوق العادة،فرض نفسه على الساحة في وقت استثنائي وحاز على حب وإعجاب الملايين من الشباب بمختلف ألوانهم بما قدمه من إنتاج فني غزير ومميز ونوعي،وليس لأنه يمتلك الحنجرة المتفردة تلك،ما خلق فيه موهبة خارقة قادرة على الوصول لأبعد مدى،لكن محمود عبد العزيز يظل حالة شبابية متمردة كانت ولا تزال،دفعت ثمناً ليس بخساً لشراء حريتها وفق ما تريده،أسلوب حياته،أسلوب اختيار أزياءه،وأساليب شتى تفرد بها محمود ما جعل آلاف الصفات تُطلق عليه ما بين حميدة وخبيثة،وما بين آوية له ولافظة،وأياً كان فإن محمود مضى في طريقته المتمردة دون الالتفات ومهما كان الثمن.
محمود لم يكن يمثل نفسه فقط بل كان لسان حال كل الشباب خلال تلك السنوات الغابرات،منتصف التسعينات،بل أن ظهور محمود في تلك الحقبة تزامناً مع انطلاق القبضة الحضارية الجديدة كلياً على المجتمع السوداني،هذا الظهور نفسه مثل حالة تمرد وتحدي كان يتمناها كل الشباب كردة فعل طبيعية لتلك القبضة،أظن أن هذه الحالة هي ما جعلت محمود عبد العزيز يحوز على كل هذا الحب التعلقي والذي كان ولا يزال يستحقه،محمود كان يعبر عن كل ما يختلج داخل نفوس شباب حاصرهم مشروع حضاري صادر العام والخاص،وانتوى مسبقاً ألا يفرق بين العام والخاص،كبت حالة التنفس الطبيعية ليحولها إلى مسار آخر هو غير طبيعي في تلك المرحلة على أي حال،وربما ولّد هذه الحالة من الانحراف في الذوق العام ككل..تخيل أن مبدع يُولد في ظروف قاحلة كتلك،وينجح بتفوق،ألا يستحق صفة خارق،ونظير موقفه السياسي دفع محمود مشاهداً مُذلة لا تزال أمام أعيننا،غير أن ذلك لم يخصم من رصيده ولا حتى فرداً واحداً،بل كسب به الآلاف،نعم أن محمود امتلك الموهبة الساطعة مع حنجرة قوية واختيار للمفردة موفق بشكل مطلق ثم جمع كل ذلك في تلك الحالة المتمردة،متمردة في كل شيء ربما يكون هذا هو سر القبول المطلق لـ “الجان” كما أطلق عليه محبيه في آخر الأسماء،ظاهرة محمود عبد العزيز تبيّنت بشكل مفاجيء للجميع حينما رقد طريح الفراش،وكانت المفاجأة أكبر من التصورات وأبعد من تنبوء أدق المتنبئين وفاقت خيال الجميع،حينما فارق محمود الحياة،وفي البال مشهد مكتنز بملايين الشابات والشباب والأطفال والنساء والرجال،يبكون محمود بوجع وصدق،صدق كلماته وصدق رسالته التي أخلص لها وكلفته أثماناً باهظة وصلت مرحلة حياته،حياته التي هي عبارة عن حب الناس بكل بساطة،كان يعيش على هذا الحب،عاش عليه ومات عليه،والمقربون من محمود يدركون كم أن ترف الحياة لا يمثل عنده جناح بعوضة،لكنه محمود الذي عرفناه،حُب الناس وليس غيره،وسيبقى محمود حالة عشق نادرة شهدتها الساحة الفنية بالسودان،وسيظل مغرداً ولو فارق الحياة،نُم بسلام أيها الكنار.
=
الجريدة
[email][email protected][/email]