المحارب.. رواية.. 15

جوبا: البؤس والبؤساء.
ها هى جوبا قد ظهرت معالمها.. نحن الآن على مشارف المدينة، صاح السائق وهو يرفع قدمه عن دواسة الوقود اتقاء لمطب ظهر امامه فجأة..
انتبه اشرف لحديث السائق ففتح عينيه، ادهشه منظر الطبيعة الرائع.. اشجار الابنوس العالية تعانق فى رقة اشجار المانجو الشديدة الاخضرار.. المساحات الواسعة التى كستها الخضرة والتى توحى كان الارض فُرشت ببساط أخضر، وامامهم لاح فى الافق البعيد جبل الرجاف يعانق غيمة سوداء اتكأت على قمته.. احس اشرف براحة وهو ينظر الى الطبيعة حوله برغم الالم الممض الذى ظل يزداد حينا بعد حين.. حين راى جوبا لاول مرة يوم ترحيلهم من مطار وداى سيدنا، لم يتبين معالمها جيدا، فقد هبطت بهم الطائرة فى مطارها الساعة الثالثة صبحا، ووجدوا فى انتظارهم ناقلات الجنود التى لم تمهلهم ليلتقطوا انفاسهم، فغادرت بهم الى توريت قبيل بزوغ الفجر.
اعتدل اشرف فى جلسته ثم سال السائق: كم يبعد مركز المدينة من هنا؟
– عشرة كيلو مترات تقريبا..
– اذن اسرع بنا، فقد بلغ الالم منتهاه..
– سنكون هناك خلال خمسة عشرة دقيقة..
– ايوجد فى المستشفى امكانات لعلاج الحالات الخطرة؟
– غالبية الجرحى يتم علاجهم هنا.. فقط الحالات المستعصية هى ما يتم تحويلها الى مستشفى السلاح الطبى بام درمان..
– حالات مستعصية مثل ماذا؟
– العمليات الجراحية الكبرى..
لم تمض دقائق حتى وصلت السيارة الى مركزالمدينة.. كانت الشوارع خالية تماما من المارة، اللهم الا من بعض اطفال الشوارع الذين يهيمون على وجوهمم فى اسمالهم البالية، او العطالى الذين ضاقت بهم بيوتهم فلفظتهم الى قارعة الطرق ليفترشوا ارصفتها تحت الاشجار اتقاء لزخات المطر.
كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة بعد منتصف النهار بقليل عندما بلغت السيارة القاعدة العسكرية لمدينة جوبا، تحدث السائق مستعرضا معلوماته كانه مرشد سياحى، او قل كانه استاذا يحاضر تلاميذا له فى حصة الجغرافيا:هذه جوبا عاصمة وسط الاستوائية واكبر مدن الجنوب على الاطلاق.. تقع على النيل الابيض، ومناخها استوائى شديد الحرارة نهارا، وشديد الرطوبة ليلا.. غالبية سكانها من قبيلة البافاريا، بها عدد لا باس به من المستشفيات والمراكز الصحية، ويعد مستشفاها العسكرى من اكبر المستشفيات على المستوى الخدمى والذى يبعد عشرة دقائق على اليمين من هذه القاعدة الضخمة التى تضم كل وحدات القوات المسلحة تقريبا.. وعلى اليسار من هنا يقع مطار جوبا الذى يربط المدينة بالعالم.
كان اشرف يستمع الى السائق وهو ينظر حوله الى معالم المدينة التى تحولت غالبية البيوت فيها الى اطلال بفعل الحرب التى امتدت لتسعة عشرة سنة دونما انقطاع، تواترت الاسئلة على ذهنه وهو يجول بعينيه المرهقتين فى المناظر البائسة التى خلفتها تداعيات الحرب؛ من ذا الذى احرق جوبا وجلس على تلال الرماد يعزف بسخرية لحن الفناء، ومستمتعا بمنظر حمامات الدماء والاشلاء الممزقة؟، من هذا النيرون الذى عاث فى مدن الجنوب نكالا وحرقا وتقتيلا وتهجيرا؟ واى من طرفى النزاع هو نيرون هذه المحرقة اللعينة؟ ان من نكل بالجنوب بكل هذه البربرية لا ريب فى انه اشد وحشية وسادية وسيكوباتية من نيرون روما .. وعلى الرغم من روعة وسحر الطبيعة، الا ان اشرفا لم يرَ فى جوبا الا دموع الثكالى، وزفرات الارامل، واحزان اليتامى.. جوبا عيون غائرة، ونظرات تائهة، ووجوه عابسة، ونفوس تعيسة ومضطربة ارهقها البؤس والقلق والتوجس.. جوبا احلام تبددت وتكسرت على صخرة طمع وجشع ووحشية الانسان.. جوبا وكل مدن الجنوب قاطنيها مجرد ظلال انس فتك بهم التوتر والخوف والرعب والمسغبة قبل ان تفتك بهم حمم الراجمات وسعير المدافع.
على ماذا يتقاتل الناس؟ سؤال طرحه اشرفا على نفسه مستعرضا تاريخ الحروب البشرية منذ فجر التاريخ والى يوم الناس هذا.. فهل هى شهوة السلطة وحب الزعامة والتملك؟ ام هى الانانية والحقد والحسد؟ ام هى تلك الاشياء مجتمعة؟.. ما ابشع الانسان حين تتخلى عنه انسانيته، وما اقبحه وحش عندما تتقمصه تلك الروح الشيطانية فينزع عنه اقنعة الخير والسماحة والمحبة، لينزع الى ارتداء اقنعة الشر والقبح والكراهية.. لقد برع على مر العصور فى صنع اشد انواع السلاح فتكا ليقتل به اخيه دون ان يطرف له جفن، وعجز عن صنع وسيلة واحدة يزرع بها سلاما دائما يجعل من الارض التى يعيش على ظهرها واحة للخير والمحبة، ان الشيطان نفسه ليعجز ان يأتِ بافعال درج بعض البشر على فعلها.
مستشفى جوبا العسكرى، نظر اشرف الى اللوحة اعلى البوابة الحديدية الضخمة التى توقفت السيارة امامها، فحمد الله على وصولهم بعد تلك الرحلة الشاقة التى عانى فيها الامرين.. فتح حارس الامن البوابة وسمح لهم بالدخول فتحركت السيارة الى الداخل وتوقفت امام قسم الطوارئ.. ترجل اشرف بمساعدة السائق، فوجد صعوبة فى المشى.. نادى السائق على ممرض كان يقف بجانب الباب فجاءه يهرع اليه، امسك الممرض باشرف وذهب به الى الداخل الى ان اوصله الى احدى الاسرة.. وما كاد يجلس على السرير حتى استلقى على ظهره وهو فى حالة اعياء تام.
لم تمض بضع دقائق حتى جاء الطبيب ومعه الممرض الذى ساعد اشرف على الوصول الى السرير.. حياه الطبيب، ثم طفق يلقى عليه بعض الاسئلة وهو يقوم بالكشف عليه.. كان اشرفا شاحب الوجه، فقد نزف جرحه بلا توقف منذ اصابته ليلة البارحة، امر الطبيب الممرض بنزع الشاش عن الجرح.. ذهل الطبيب وهو يعاين مكان الجرح، كان جرحا غائرا بعمق خمسة او ستة سنتيمترات مع تهشم فى عظمة الترقوة.. سال الطبيب اشرفا وهو يتحسس ما حول الجرح كانه يبحث عن شيء: منذ متى وانت على هذا الحال ؟
– الحادية عشرة من مساء الامس تقريبا ؟
– هل تم اسعافك على الفور؟
– مجرد اسعاف بدائى تم على يدى احد رفقاء السلاح، فالمسعفون الحقيقيون لم نرهم الا بعد ان اسفر الصبح.
– عندما تم تنظيف الجرح الم تلاحظ وجود شظايا مثلا؟.
– لا، ولكنى اشعر وكان العيار النارى كله الآن داخل كتفى.
شك الطبيب بوجود شظايا داخل اللحم، فامر الممرض بان يأخذ عينة من دم اشرف لمعرفة فصيلته، ومن ثم الذهاب به الى فنى الاشعة لاخذ صورة من مكان الجرح، وقبل ان يغادر طلب الطبيب من الممرض ان يمنح اشرف بعض المسكنات بعد ان يقوم بتنظيف الجرح.
غاب الممرض لبضع دقائق قبل ان يعود ومعه لفافة من الشاش الابيض وقطعة كبيرة من القطن الناعم، وبعض منظفات الجروح، والمطهرات، ومصل الفورتركس.. اخذ قطعة من القطن الناعم وصب عليها قدرا من المنظف وضغط بها على موضع الجرح عدة مرات قبل ان يرم بها الى سلة كانت امامه، ثم اخذ قطعة اخرى وصب عليها كمية اكبر فى هذه المرة، ثم وضعها على الجرح وقام بلفه بمهارة يحسد عليها، وبعد فراغه من تطهير الجرح وتضميده قام باخذ عينة من الدم اولا ثم قام بتطيعمه بذلك المصل ثانية، ثم خرج بالعينة وتوجه بها الى المعمل .
بدأ الالم يخف شيئا فشيئا الى ان سكن تماما، وبعد لحظات جاءه ذات الممرض وطلب منه ان يتبعه الى غرفة الاشعة.
نهض متثاقلا وتبع الممرض الذى كان يسير بخطى حثيثة داخل الردهة الطويلة التى تطل عليها ابواب عنابر المستشفى.. لحق بعد جهد جهيد بالممرض الذى كان ينتظر فى آخر الردهة امام باب غرفة الاشعة، فولجاها بعد أُذن لهما بالدخول.
تم اخذ عدة صور من مكان الجرح والمنطقة المحيطة به، وبعدها رجع اشرف الى سريره خائر القوى، ولم يكد يستلقى حتى غط فى سبات عميق، إذ انه لم يذق طعم النوم طوال ليلة البارحة.
افاق من نومه بعد نحو ساعتين بعد ان زال مفعول المسكن، وعاد الالم الى ماكان عليه من قبل واحس بحرارة جسمه تزداد ارتفاعا، وكتفه يكاد ينخلع من مكانه من شدة الالم.
اظهرت صور الاشعة ان هناك شظايا عديدة استقرت بين ثنايا اللحم مما يحتم اجراء عملية مستعجلة، سال الطبيب وهو يقوم بفحص الصور وموجها سؤاله الى الممرض: اين نتيجة فحص الدم؟
– ها هى ذى امامك على الطاولة..
امسك الطبيب بالورقة، وقرأ ما كان مدونا عليها، فكما جاء فى تقرير فنى المختبر، فان فصيلة دم اشرف هى ( او نيجاتف ) وهى فصيلة من الندرة بحيث يتعذر ايجاد متبرعين.
بدا الطبيب منزعجا فرفع راسه وامسك بسماعة التلفون وادار قرصه عدة مرات.. انتظر لعدة ثوان قبل ان ياتيه الرد من الطرف الآخر.
– الو.. سلام عليكم..
– وعليكم السلام .. معك الرائد طبيب احمد المهل، من مستشفى جوبا العسكرى ..
– مرحبا.. تفضل دكتور..
– صلنى باللواء فاضل عز الدين..
واللواء فاضل عز الدين هو قائد الحامية العسكرية بجوبا، طلبه الطبيب ليمده بمتبرعين عسى ان يجد من بينهم من يحمل فصيلة ( او نيجاتف )..
جاءه صوت اللواء من الطرف الآخر محييا: السلام عليكم دكتور احمد ..
– وعليكم السلام.. مرحبا سعادة اللواء.
– لدينا جرحى بالمستشفى جيئ بهم من توريت، وفيهم من يحتاج الى عمليات مستعجلة ..
– وكيف اساعدك؟
– نحتاج لكمية من الدم، فهل لك ان ترسل لنا بمتبرعين؟
– سيكونون بطرفك فى غضون ساعة..
– كل الشكر سعادة اللواء..
– كلنا جنود فى خدمة الوطن..
كانت الساعة تشير الى الخامسة مساء حين وصلت المستشفى مجموعة من العساكر قوامها ستة عشر فردا، بعث بهم قائد الحامية العسكرية حسب وعده للطبيب احمد المهل.. جاءوا يسبقهم حماسهم ويتقدمهم عريف سال عن الطبيب المعنى فارشدهم الى مكتبه احد الاطباء.. دخل العريف وحيا الرائد طبيب تحية عسكرية، ثم اعلن عن وصول جماعة المتبرعين.
اخذت عينة ( الهيموقلبين ) من الستة عشر فردا، اجرى عليها الفحص، فكانت نتائجها كلها تختلف الا نتيجة واحدة تطابقت مع فصيلة دم اشرف.
ظل اشرف يتقلب فى فراشه والالم يزداد لحظة اثر لحظة، منحوه للمرة الثانية مسكن خفف من غلواء الالم قليلا الى ان اعلن عن دخوله غرفة العمليات.
وفى طريقة الى غرفة العمليات، ومن على نقالة كان يدفع بها احد الممرضين، رجع اشرف يستعرض بعضا من شريط حياته والاحداث المثيرة التى انطبعت عليه.
[email][email protected][/email]