مقالات وآراء

سونا جوبارتيه .. قِصَّة رِحْلَة الكورا إلى العالم

فَذْلَكَة

بِرُغْم أن أفريقيا كانت، ولا تزال إلى هذا اليوم مهداً للبشرية جمعاء، ومهداً لأولى الحضارات الإنسانية، ينظر إليها بعض العيون الجُفاء المُتَعظِّمَة؛ بأنها قارة بدائية وفقيرة وعليلة، كأنها في حوجةٍ دائمة مِن الآخرين ولا تستطيع تقديم شئ للعالم. لكنها لا تزال تقف عظيمةٌ وبهيَّةٌ وشامخةٌ وموطنٌ أَصلِيٌّ للبشرية، شاء مَن تعالى وعماه التعالي أم لا، ورضي مَن قَبِلَ واستقبل بالتواضع هذه الحقيقة بروح التَعَلُّم. هذه هي حقيقة هذه القارة، وليست تلك الصورة الزائفة التي رُوِجَتْ ويتم تَرْوِيجها قصداً ونيلاً منها. هذه هي الحقيقة الناصية الجميلة التي عملت الآلة الإعلامية في الضفة الأُخرى على مر أكثر مِن قرنٍ تصويرها على نحوٍ خاطئ، منذ اتخاذ أولئك الامبرياليون قرارهم بالزحف والاندفاع نحوها عقب انفضاض مداولاتهم في مؤتمر برلين (1884 – 1885م)، وأدخلوا هذه الأُم السمراء الجميلة في نفقٍ مظلمٍ، وسرعان ما اتسعت تخوم امبرياليتهم. ومع أن الأشياء بدأت تتساقط جَرَّاء سيطرة الاستعمار وبطشه، كما يَرْوِي شينوا أشيبي في روايته الشهيرة (الأَشْيَاء تتداعى)، إِلَّا أن أفريقيا وثبت بجبروتها، وثارت بروقها ودمدمت روعدها وأمطرت الغزاة والمعتدين بوابل غضبها، فقطعت الحبال والقيود ومزقت الأصفاد والأغلال.

السِيرَة والفن

بحسب ما جاء في سيرتها المنشورة في موقعها الإلكتروني، تنحدر المطربة سونا جوبارتيه مِن دولة غامبيا بغرب أفريقيا، وهي عضو في إحدى العائلات الخمس الرائدة في عزف آلة الكورا الموسيقية. وتُعْرَّفُ تلك العائلات باسم (غريوت Griot)، وتعد عزف آلة الكورا هوايةً قديمةً لها. وإذ مضى الزَّمَان على ممارستها لهذه الهواية جيلاً بعد جيل، تم تسليمها حصرياً مِن الأب إلى الابن طوال القرون السبعة الماضية، فأضحى عزف الكورا تقليداً متوارثاً في تلك العوائل. وكان عزف الكورا محصوراً على الذكور، لكن العازفة والمغنية سونا جوبارتيه شقت لنفسها طريقاً مخالفاً للقاعدة التي استمرت لمدة سبعة قرون، وأصبحت الأنثى الأولى التي تعزف آلة الكورا المتوارثة بين الذكور في عائلتها، ولم يتجاوز عمرها حينها ثلاث سنوات، على يد أخيها، توندي جيقيد (1). نشأت بينها وآلة الكورا وهي لاتزال طفلة قِصّةُ حُبٍّ دامت أربعاً وثلاثون عاماً حتى الآن.
اشتهرت سونا المولودة في لندن في العام 1983م مِن أبٍ غامبي الجنسية وأُمٍّ انجليزية الجنسية، بمهارتها كصَّوْت شادي، وعازفة مميزة ترسل الألحان والأنغام على خشبة المسرح بسحرٍ، وسرعان ما صعدت إلى النجاح الدولي بعد إصدار ألبومها الشهير (فاسيا / fasiya)، وتعني كلمة “فاسيا” هذه (التُرَاث) في العام 2011م (2).
حضرت جوبارتيه كلية رويال الموسيقية في لندن، حيث دَرَّسَتْ الشيلو (آلة الكمان الكبيرة) والبيانو والقيثارة، ولم يمضى الوقت كثيراً حتى ذهبت إلى مدرسة بورسيل الموسيقية لدراسة التأليف الموسيقي (music composition). كما أنها أكملت شهادة في جامعة سوس SOAS بلندن. وإذ تنحدر من شعب ماندينكا بغرب أفريقيا، تتحدث ماندينكا بطلاقة، وهي اللغة التي تؤلف وتؤدي بها أغانيها. إنها شخصية موهوبة وعازفة لعدة آلات موسيقية: الكورا في المقدمة، ثُمَّ الشيلو، والبيانو والجيتار والقيثارة. وهي أيضاً أستاذة جامعية قدمت محاضرات كثيرة في مجال الموسيقى في لندن وبلدان أُخرى في العالم. وتتمتع عائلة سونا بسمعة كبيرة كصاحبة آلة الكورا ذائعة الصيت، ولا سِيَّمَا جدها أمادو بانسانغ جوبارتيه، الذي كان رمزاً في تاريخ غامبيا الثقافي والموسيقي، وابن عمها تماني دياباتي الذي اشتهر بإتقانه عزف آلة الكورا (3).

أجزاء الكورا

الكورا آلةٌ موسيقيةٌ أفريقيةٌ، وتعود ملكيتها لشعب (ماندينكا) Mandinka في غرب أفريقيا، وهم مجموعة إثنية متواجدة في جنوب دولة مالي وشرق غينيا وشمال كوت ديفوار بالإضافة إلى دولة غامبيا. يتكون جسم الآلة مِن عنق طويل مصنوعٌ من الخشب الصلب، ويمر الخشب عبر قرعاً يصدر صوتاً رناناً ومغطى من الخارج بالجلد. وبها واحداً وعشرون وتراً بلاستيكياً مثبتة بالجلد ومتصل بالخشب من أعلى عنقه. وتمر الأوتار فوق جسر به أسنان تنزل الأوتار بين فتحاتها على الجانبين، بواقع عشرة أوتار على جانبٍ واحد مِن الجسر، وحادي عشر وتراً على الجانب الآخر. وترسو الأوتار في نهاية الآلة على حلقة معدنية. وأثناء الأداء، تستقر الآلة على الأرض في وضع رأسي، ويَعْزِفُ العازف على الآلة جالساً (4). مِن ناحية التصنيف والنوع، تنتمي الكورا لأسرة الآلات الموسيقية الوترية مثل الجيتار والربابة والأدنقو في شقي السُّودَان.
يتم سحب الأوتار عند العَزْفِ بالإبهام والسبابة لكل يد، بينما تبقَ بقية الأصابع ممسكة بمقبضتين من الجزء العلوي مِن القرع. ويتم ضبط أو دوزنة آلة الكورا عن طريق تحريك الحلقات الجلدية الموجودة في الجزء العلوي مِن الرقبة في جسم الآلة. ويعتبر وادي نهر غامبيا هو أحد المراكز الرئيسية التي تُعْزَفُ فيه هذه الآلة. وقد ارتبطت أُصُول الآلة بالممالك والحضارات التي قامت واندثرت في منطقة غرب أفريقيا. كما أنها ترتبط بالملوك أو الطبقات الحاكمة والطقوس الدينية القديمة لا سِيَّمَا العبادات والتأملات. ويتم استخدام آلة الكورا الموسيقية من قبل الموسيقيين الذكور بشكل رئيسي لمرافقة جلسات السرد والتلاوات والأغاني تكريماً للراوي والرَّاعِي (5)، والرَّاعي هنا إشارةٌ واضحة لشخصٍ عالي المقام: الملك .. الأمير .. الحاكم .. السلطان .. شيخ العشيرة أو السياسي…إلخ.

التحديث والإيقاع

ينطبق الوصف أعلاه على آلة الكورا التقليدية الأصلية، لكن في عالمٍ يسوده البحث عن الجديد، استحدثت سونا جوبارتيه آلة الكورا، وذلك بتغيير العنق الخشبي الطويل، كما أوضحنا في الوصف أعلاه، بخشب طويل ومستقيم وثبتت عليه مفاتيح ضبط الجيتار، الأمر الذي جعل عملية الضبط والدوزنة للكورا سهلة وسريعة. وتعكف سونا على عزفها واقفة وتؤدي أغانيها في كل حفلاتها على هذا المنوال في أغلب الأوقات برفقة أبيها، سانجالي جوبارتيه. وتقوم بأدائها الموسيقي برفقة أعضاء فرقتها. وتُقّدِّم الفرقة حفلاتها بِعَزْفِ الآلات الآتية:
الدرامز الحديث بجميع ملحقاته، وهي مجموعة من الطبول والصنجات (سيمبال) المختلفة الأحجام، يتم ترتيبها بشكل محدد حول العازف. ويستخدم العازفُ في العزف عصا يضرب بها، ودواسة تحت قدمه مخصصة للصنج.

درامز غرب أفريقيا وهو عبارة عن قرع، وهو من آلات الطبل من حيث التصنيف. ويتم إخراج إيقاعاته عن طريق الطَرْق والضرب أيضاً بطرقٍ مختلفة حسب سرعة أو بطء إيقاع الأغنية. إنها تسمى (آلة النقر) أيضاً.

الجيتار الكهربائي وتصدر أصواته أو إيقاعاته نتيجة اهتزاز الأوتار الموجودة عليه عن طريق الضغط عند العزف، وتساعد ثقب الصوت في جسمه في إخراج الإيقاعات حتى تُسمع.

الكورا والتي تعتبر الآلة الرئيسية ضمن مجموعة الآلات التي تُعْزَفها المطربة سونا جوبارتيه بنفسها أثناء أدائها لأُغنياتها.

وأثناء الحفلات الغنائية، تخرج الأوركسترا مزيجاً رائعاً من الإيقاعات التي تحبس الأنفاس، وتجعل الإنسان يعيش حالة مِن النشوة الموسيقية في أعماق نفسه أو في مفاصل نفسها. وتتنوع الإيقاعات بين السريعة في معظم الأغنيات، والبطيئة أحياناً.

أكاديمية غامبيا الموسيقية

بدأت سونا خططها الطموحة في العام 2014م لإنشاء أول أكاديمية ثقافية في غامبيا، تهتم بدراسة الموسيقى وأنواع الرقصات الثقافية. وقد بدأت بتأسيس قسم للصغار (جونيور) والذي سمته على اسم جدها الراحل (أمادو بانسانغ جوبارتيه). ومنذ ذلك الحين إلى الآن، عمل قسم جونيور بنجاح كبير، حيث حصل طلابه على اعتراف وطني ودَّوْلِي. وقد شاركوا في العديد مِن أحتفالات الدَّوْلة وخصوصاً افتتاحياتها. وبينما كانوا يؤدون عروضهم بانتظام في إحدى المنتجعات الفندقية في غامبيا، نالت عروضهم إعجاب المستشارة الألمانية، فقررت أن تزور الأكاديمية. وبعد النجاح السريع لقسمها الصغير، تقوم سونا الآن بكل جهودها في التوسع الذي طال انتظاره لتصبح أول أكاديمية ثقافية في غامبيا. ويكتسب المشروع زخماً، وتعمل سونا كثيراً الآن لتطوير هذا المشروع الفني الرائد (6).

خاتمة

في السنوات الأخيرة، ارتقت سونا بسرعة إلى النجاح الدولي، حيث تصدرت المهرجانات الرئيسية حول العالم في البرازيل والهند وكوريا الجنوبية وغانا والمكسيك وتنزانيا وساحل العاج وليتوانيا وبولندا وجنوب أفريقيا وماليزيا وغيرها من دول العالم. وتتمتع سونا وموسيقاها بقدرة فريدة على لمس الجماهير من جميع الخلفيات والثقافات (6)، على الرغم مِن أنهم لا يفهمون اللغة التي تُغني بها.
إن قِصّة سونا جوبارتيه، قصة امرأة أحبت تراث عائلتها فأعطتها وقتها وطورتها وأخذتها إلى العالم في رحلةٍ أسميناها أعلاه، برحلة الكورا. الكورا، تلك الآلة الموسيقية الأفريقية ذات الواحد وعشرين وتراً، التي أبهرت شعوب الثقافات الأُخرى غير الأفريقية. لقد استطاعت سونا جوبارتيه أن تُقَدِّمُ شيئاً أفريقياً خالصاً إلى العالم، وبرهنت للعالم أن أفريقيا ليست تلك القارة البدائية الفقيرة الجائعة العليلة، كما يرونها على شاشات التلفزة، بل قارة موهوبة زاخرة بالثقافات والتراث كغيرها من القارات. إنها أفريقيا المنطلقة بتراثها وثقافتها ورُقِيها لمشاركتها مع العالم المتحضر في حياة سونا. تلك قصتها، أيَّتُهَا السيدات .. ويا أيُّهَا السادة. مَرْحَى ! إنها تمثلني وتمثلكم.
في شهر أكتوبر مِن العام 2017، كتبت صحيفة (صَّوْت الهَامِش) الإلكترونية السُّودَانِيَّة عن هذه الأيقونة الفنية الأفريقية تقول: “تمتلك سونا قدرةً فريدةً على التواصل مع الجمهور وتحريكه، لا سِيَّمَا الأجانب مِمَّن لا يعرف معظمهم الكثير عن الموسيقى الأفريقية” (7). إنها سفيرة الثقافة الأفريقية إلى العالم مِن شعب “ماندينغ” Mandinke أو “ماندينكا” Mandinka الأفريقي. سلم الجميع من جائحة الكورونا.

هوامش
الموقع الإلكتروني الخاصة بالمغنية http://www.sonajobarteh.com/biography.html
نفس المصدر أعلاه
الموسوعة الإلكترونية الحرة – ويكيبيديا Wikipedia
موسوعة المعارف البريطانية – النسخة الإلكترونية Encyclopedia Britanica / https://www.britannica.com/art/kora-musical-instrument
مشهد من فيديو العزف على موقع اليوتيوب / https://www.youtube.com/watch?v=30j6Uw5WHi4
الموقع الإلكتروني الخاصة بالمغنية http://www.sonajobarteh.com/biography.html
راجع صحيفة صوت الهامش السودانية، أكتوبر 2017م .. عنوان الموضوع (تعرَّف على سونا جوبارته أيقونة الموسيقى الأفريقية العالمية) ..

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..