مقالات وآراء سياسية

جدوي استدعاء ثورة 1924م في ذكراها المئوية(1 – 2)

محمود محمد ياسين

يشتمل هذا المقال التعليق على ثورة 1924م (يونيو – نوفمبر 1924م) ، التي فجرها الشعب السوداني ضد قوات الاحتلال البريطانية ، في ذكراها المئوية واستعراض جدوى استدعائها. كما يحتوى المقال على إعادة لنشر صيغة منقحة لمقال للكاتب بعنوان ”ثورة 1924م – بداية الثورة الوطنية الديمقراطية الحديثة في السودان“. وإذ نخصص هذا المقال لثورة 1924م، الذى استدعته ذكراها المئوية ، فإننا لا نحتاج التأكيد بان احداث الماضي مليئة بأمثلة كثيرة من الانتفاضات الوطنية كانت دائما مترسخة في وجدان الشعب وملهمة له.

دائما ما يلجأ الناس في المنعطفات الثورية لذاكرة الماضي واستدعاء الشخصيات والأحداث المتعلقة بها لكى تمدهم بالدروس التي تعينهم للتقدم نحو الجديد ، ولا يعتبر هذا عاملا سلبيا ، بل وسيلة إيجابية في مجرى التغيير. والمثال الساطع للتوسل بذاكرة الماضي لإنجاز التغبير ، استدعاء اشباح الماضي في الثورة التاريخية العظيمة ، التي كانت نقطة فارقة في تغيير وجه العالم بنقلها للسيادة من الاقطاعية للبورجوازية. فلتأسيس أنظمة قانونية ودستورية جديدة مكان الانساق الاقطاعية ، لجا قادة التغيير للاستفادة من مكانة روما القديمة في صياغة القوانين. وفى هذا الصدد يذكر ماركس أن الناس آنذاك ، لخلق شئيا لم يكن موجوداً من قبل ، أخذوا ” يستدعون أرواح الماضي لتخدم مقاصدهم ويستعيدون منها الأسماء والشعارات القتالية والأزياء لكى يمثلوا مسرحية جديدة على مسرح التاريخ …….. وهكذا اكتست ثورة 1789م (الثورة الفرنسية) بثوب الجمهورية الرومانية تارة وثوب الإمبراطورية الرومانية تارة أخرى. وما ان تحقق للبرجوازية نيل مقصدها (القوة) التفتت نحو الجسر وحطمته ….. ومثل ذلك فإن المبتدئ الذى تعلم لغة جديدة نجده دائما يترجمها إلى لغته الأم ، لكنه يستوعب روح اللغة الجديدة ويعبر بها عن نفسه بسهولة وفى يسر عندما يستخدمها بدون تذكر اللغة القديمة عندما لا يعود يتذكر النطق بلسانه الأصلي“.

إن استدعاء احداث ووقائع الماضي السوداني تنبع الحاجة اليها من ضرورة اكمال ما لم يتم إنجازه في انتفاضات 1964م و 1985م و2018م . فتلك الانتفاضات تشترك في طبيعة واحدة وهو انها كانت تعارض حكومات القاسم المشترك بينها هو هيمنة قاعدة اجتماعية كمبرادورية عليها. ولحماية مصالح هذه القاعدة الاجتماعية (التي يدور نشاطها الاقتصادي في مضمار التصدير والاستيراد) ، فقد درجت الحكومات المتعاقبة ، التي تمثلها ، على اتباع سياسة رهن القرار السياسي للخارج وقهر الشعب بالقوانين القمعية والتدابير التعسفية (austerity measures) وحرمانه من الحرية السياسية والنقابية. وهكذا ، فان التغيير في السودان يمكن تلخيص هدفه النهائي في ضرورة تحرير القرار السياسي من قبضة طبقة الكمبرادور ، أي من السيطرة الخارجية. وايس من مثال يمكن استدعاءه لإنجاز هذه المهمة افضل من ثورة 1924م. فبالرغم من مئة عام تفصلنا عن ثورة 1924م حدثت فيها تحولات كثيرة في البلاد على الصعيد الاقتصادي/الاجتماعي وتعبيره السياسي ، الا ان التناقض الأساس المتصل بمسار الثورة السودانية ما زال ، في جوهره ، يتمثل في الهيمنة الخارجية على البلاد وأن استقلال القرار الوطني يمثل القضية الأولى التي تواجهها البلاد حتى اليوم. ولهذا فان استدعاء ثورة 1924م يساعد في تعزيز الوعى القومي بضرورة تحرير القرار الوطني ومن ثم يقدم القوة الدافعة لإكمال ما بدأه الشعب في هَبّات 1964م ، 1985م ، 2018م .

وكذلك ، فان استعادة 1924م يمنح الجسم السياسي السوداني الثقة في قدراته للتصدي بنجاح للتحديات التي تواجه البلاد إِثْرِ للهجمة الحالية عليها من قبل بعض الدول الخارجية وعملائها. والقتال الدائر في البلاد منذ ابريل 2023م يجعل استلهام 1924م أكثر احاحا ؛ لكن لا يفوتنا التذكير بان ان الشى الهام الذى يغيب عن اذهان الكثير من مواطنينا هو ان الجيش السوداني لا يقود حربا ثورية. فالنزاع بين مليشيا الجنجويد والجيش نشأ حول مسائل تنظيمية تتعلق بمشروع ”الاتفاق الاطارى“، ذو الطبيعة الاستعمارية ، الذى وضعته الدول الغربية ودولة الامارات والمملكة السعودية للسيطرة على السودان. ولهذا ، انحصر التنازع حول مسائل تنظيمية تتعلق بمهددات وجودية تواجه كلا التنظيمين العسكريين ، بجانب مواضيع إجرائية أخرى تتعلق بتمثيل القوى السياسيةالمختلفة في ”الاتفاق الاطارى“، ولم يكن (النزاع) يدور حول رؤى جديدة مغايرة للتوجه السياسي/ الاقتصادي القديم الذى طالما تبنته الأنظمة السابقة ، وبإفراط من قبل الحكومة الانتقالية الناشئة عقب الاطاحة بنظام الانقاذ للإسلاميين في 2019م. فالحكومة الانتقالية ، احتضنت التوجه الاقتصادي النيوليبرالى المتضمن بالضرورة في المشروع الاستعماري : ”الاتفاق الاطارى“.

إن الاستفادة من ذكرى 1924م لا تتم بالمبالغة في تعظيمها بشكل تجريدي (abstract terms)، بل- كما في كل احداث التاريخ – بالدراسة العميقة لأحداثها في صعودها واخفاقاتها. إن ثورة 1924م لم تنتصر وعدم نجاحها (لأسباب موضوعية ، نستعرضها في الجزء الثاني من المقال) لا يعنى عدم الاستفادة من استلهامها كحدث تاريخي من احداث التحرر الوطني المميزة ؛ والقاعدة هي أن استدعاء الماضي ما هو الا جسر للعبور نحو الجديد وبعدها يمضى الناس لحال سبيلهم ويتركوا القديم وراءهم ؛ فكما في مثال الثورة الفرنسية ، الذى أوردناه أعلاه ، حول استدعائها للماضي فان البرجوازية بعد تحقيقها لأهدافها تركت الاقطاعية وراءها و” التفتت نحو الجسر وحطمته“.

ويجدر الانتباه الى أن استدعاء أحداث التاريخ قد يحدث لأسباب لا علاقة لها بإضاءة الطريق لمستقبل جديد. ففي العام الفائت عندما تنادى البعض للاحتفال بذكرى ثورة 1924م ، ظهر غراب البين وحط رحله وروج لاستدعاء الهبة العظيمة من منظور سياسات الهوية. انه غراب البين الذى كلما ظهر لا يثير الا التشاؤم والتطير. وهكذا ، فان تفسير ثورة 1924م على أساس سياسات الهوية يؤسس على وجهة نظر ذاتية قائمة على أساس مظاهر الهوية لفئة محددة في المجتمع بديلا للتحليل الاجتماعي/الاقتصادي. وخطورة الاستعانة بسياسات الهوية ، الرائجة حاليا في السودان ، تتمثل أساسا في عملية الباس المواقف غير الوطنية المرتبطة بالخارج زي الهوية الدينية أو المناطقية أو العرقية لفعاليتها في اثارة الجماهير.

إن أصحاب سياسات الهوية يدعون الى ضرورة استدعاء ثورة 1924م لرسم مشروع وطني جديد محدداته الهوية التي بزعمهم تطيح بالتباين وسط القوى الاجتماعية السودانية بين السود وغير السود الذى أعاق مسيرة الثورة. لكن ، أولا ، هذا اعتقاد لا معنى له وادعاء فارغ تغيب عنه معرفة مفهوم الثورة والجهل بتاريخ حركات التحرر العالمية ، كما يعبر عن ان سياسات الهوية تفشل في ادراك أن ثورة 1924م هي بمثابة الفصل الأول في الثورة الوطنية/ الديمقراطية (التفصيل في الجزء الثاني من المقال). والثورة الوطنية/ الديمقراطية تمثل الاستراتيجية الصحيحة للتغيير في السودان منذ مطلع القرن العشرين : ثورة وطنية للتحرر من التبعية والهيمنة الاستعمارية (السياسة والاقتصادية) ، وطبقية ضد الفئات الاجتماعية اليمينية المختلفة التي ترعى مصالح القوى الأجنبية. وثوار 1924م هم أبناء زمانهم؛ فنضالهم ضد السيطرة الاستعمارية المباشرة لبريطانيا على السودان لم يقترن بوعى الطبيعة الحقيقية للعدو الذى يحاربونه وهكذا ، فان المطلوب هو دراسة حدود وقيود ثورة 1924م.

وثانيا : لم يستجب على عبد اللطيف قائد الثورة للاستعلاء العرقي الذى واجهته به القوى الاجتماعية الرجعية التي كان دافعها في معارضة الثورة الحفاظ على مكاسبهاالاقتصادية المتمثلة في امتلاك الأراضي ومشاريع زراعة القطن التي اكتسبتها ثمنا لتعاونها مع المستعمر الإنجليزي ، ولهذا غلفت دفاعها عن مصالحها الاقتصادية بالهجوم العنصري المقيت على قادتها ؛ لكن عدم استجابة قائد الثورة لهذا الموقف العنصري ونظرته الى ان الازمة بينه وبين هذه القوى ليست بين عرب وزنوج عبر عنها باكتفائه بتلخيص الخلاف بين القوى الاجتماعية آنذاك كان بين قوى وطنية وأخرى غير وطنية.

وثالثا :  فان الدعوة لمشروع وطني جديد (مصمم على أساس الهوية) ، دعوة لا تمثل ترديا فكريا فحسب، بل تغاضيا لمشروع الثورة الوطنية/ الديمقراطية الذى رسخ مبداه ، منذ منتصف اربعينات القرن المنصرم ، الماركسيون السودانيون وسط قطاعات الشعب ، وهو المشروع الذى قدم التوصيف الصحيح للمسألة الوطنية ومن ثم التحديد الدقيق للمشروع الوطني والقوى الاجتماعية المؤهلة (تاريخيا) للاضطلاع بتنفيذه.
نواصل .

 

[email protected]

‫4 تعليقات

  1. لم تحدث ثورة في السودان عام 1924 وما حدث كان تمردًا لدعم المصريين. دعونا نقرأ تاريخنا مرة أخرى دون أساطير ومبالغات
    عندما اغتيل الحاكم العام السير لي ستاك في القاهرة في 19 نوفمبر 1924، أجبر البريطانيون المصريين على الانسحاب من السودان وأبادوا كتيبة سودانية تمردت لدعم المصريين. وانتهت ما يسمى بالثورة السودانية، وظل الحكم البريطاني بلا منازع حتى بعد الحرب العالمية الثانية.

    1. ليس ذلك فحسب بل شرك مصرى لوقف التفكير فى انشاء مشروع الجزيرة وقيام خزان ستار لمعرفتهم بتقليل حصة مصر من المياه وليعتمد السودانين فى معيشتهم على الزراعة المطرية التقليدية والرعى
      الجيش السودانى لم ينشا على عقيدة وطنية خالصة ولذا كان من السها خداع السذج حتى تم ابادتهم عن بكرة ابيهم

  2. مقالك مليء باللغة القديمة لليسار والأيديولوجية الشيوعية في الخمسينيات. أشعربتعآ بير ومصطلحات بروف محمد عمر بشير. لا أعرفك ولكن يبدو لي أنك أحد نسخ اليسار. أنت بحاجة إلى تغيير نفسك يا رجل. نحن نعيش في عصر وزمن مختلفين.

  3. سردية الشيوعيين السودانيين لتحويل ثورة ١٩٢٤ إلى مرحلة من مراحل الثورة الوطنية الديمقراطية في السودان كما في زعمهم لفصلها عن الثورة في مصر التي أتت بإستقلال جزئي ودستور شبه ديمقراطي وإنتخابات مكَّنت حزب الوفد من إكتساح البرلمان إلا من أقلية تابعة للإنجليز والملك. هذه الاطروحة تصطدم بحقيقة أن هذه الانتفاضة المسلحة قامت بتدبير من جمعيتي اللواء الأبيض والإتحاد السوداني. كلا الجمعيتين كانت إستجابة لثورة ١٩١٩ التي عمت القطر المصري وهذا ما عمد جناح عبدالخالق محجوب على إخفائه منذ أن نجح في إقصاء جناح عوض عبدالرازق والذي كان يرفع شعار الوحدة مع مصر والعمل داخل التيار الاتحادي فاستبدلوا الشعار بالمناداة ب(الكفاح المشترك بين الشعبين في وادي النيل) في إستحابة فاضحة لتعليمات هنري كورييل لعبدالخالق.

    لفهم طبيعة ثورة ١٩٢٤ يجب العودة لأكثر من مائة عام حين إمتدت دولة محمد علي باشا جنوباً ضامة إليها أغلب أراضي السودان الحالي.
    لم ينقطع ذلك الامتداد والاتحاد إلا بقيام المصيبة المهدية والتي إنتهت بعد ١٧ عاماً من قيامها كإنفصال مسلح ما كان ليجد حظة في الانتصار والاستمرار لتلك المدة لولا هزيمة جيش عرابي في معركة التل الكبير ١٨٨٢.

    إن التاريخ المشترك والدولة الواحدة لنحو مائة عام أو يزيد في وادي النيل هو ما يفسر ثورة ١٩٢٤ ونشأت جمعيتي اللواء الأبيض والإتحاد السوداني وليست أوهام جناح عبدالخالق الذي إختلق مساراً رفضاً للوحدة مع مصر متحالفاً في ذات الوقت مع أقصى اليمين (حزب الأمة) في ما سمي وقتها بالجبهة الاستقلالية.

    إن محاولات تزوير التاريخ السوداني إمتدت على يد المؤرخ الرسمي للحزب الشيوعي السوداني محمد سعيد القدال لرسم لوحة لثائر سوداني مزعوم إسمه الحقيقي محمد أحمد ود فحل واسم الشهرة المهدي.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..