
النور حمد
ما من أمةٍ، عبر التاريخ البشري، إلا ومرَّت بالعديد من الامتحانات القاسية التي تضعها على مفترقٍ للطرق ذي شعبتين. تقود شعبةٌ من هاتين الشعبتين إلى الهاوية، في حين تقود الأخرى إلى النجاة، ثم الصعود إلى ذُرَى الازدهار والمجد. والآن، نعيش، نحن السودانيين، هذه اللحظة الفارقة، واقفين عند هذا المفترق، في حالة من الالتباس والهرج والمرج لم يسبق أن مررنا بها منذ ما يزيد عن القرن وربع القرن. فقد لفت قطاعًا معتبرًا، منا شمل حتى بعضًا من المدركين، سحب الضباب والالتباس. فلم يعودوا قادرين على تحديد أي الشعبتين نسلك، وربما لم يعد بعضٌ آخر من هؤلاء غير مهتم أصلاً أيهما نسلك.
وسط هذه الحالة من الالتباس وانبهام السبل، نجد أن الأغلبية غير المدركة، ذات النشاط الجم والصوت العالي، تدفع، وبقوة، نحو اختيار الشعبة المفضية إلى الهاوية. لقد سمَّم الإخوان المسلمون اللغة ما أتاح للصيغ المضللة والشعارات المشحونة أن تخلق عِثْيَرًا وقتامًا لا تخترقه سوى البصائر القوية. لقد سمموا العقول بإغراقها في التفاهات، كما تلاعبوا بقواعد المنطق، حتى أصبح الحق باطلاً والباطل حقَّا في نظر كثيرين. وهذه من أسوأ المراحل التي تمر بها الأمم. وقد حدث ذلك كثيرًا في التاريخ.
يد الإخوان المسلمين السامَّة
لقد نجح الإخوان المسلمون في فترة حكمهم التي امتدت لستة وثلاثين عاما، في استخدام مناهج التعليم والمساجد والأقنية الإعلامية لنشر الجهل والخرافة والتعصب الديني، وبنفس القدر نشروا الغثاثة والتفاهة. وكلا هذين الفعلين حين يبلغا درجة التأثير الشامل يقودان إلى اضمحلال الدولة وسوقها إلى حتفها بظلفها. إذ ههنا يصبح الجمهور العريض هو الفاعل الذي يحفر قبره بنفسه. ما كشفته هذه الحرب اللعينة القذرة أن نور العقل قد انطفأ وأن الوازع الديني وسط قطاعٍ عريضٍ من مواطنينا قد ضمُر. لقد كشفت هذه الحرب الوحش الكاسر الذي ظل رابضًا في دواخلنا، وهو مختبئ تحت مسوح اللباس العصري والتمظهر الكاذب بالوداعة والمسالمة وبالتأدب المصطنع. أخرجت هذه الحرب البنادق والمدى وأخرجت منا معهما اللغة الجارحة التي كانت مكبوتةً فاندفعت مجتاحة التلول والسهول، كما سيل العرم. انهارت فينا مسحة التمدين الكاذبة ووقفنا عريانين أمام حالتنا الأصلية التي كانت مخبأةً تحت غطاءٍ سميكٍ من الزيف. فما أن انطلقت الرصاصة الأولى ودخلت عاصمتنا ولأول مرة منذ الثورة المهدية ما يسمى حرب المدن، انكشف الغطاء وانفضح الزيف وانهارت الدعاوى. ويا طالما حذرنا من حرب المدن، لكن من يسمع؟ انطبقت النزعات البدائية من عقالها؛ من عرقيةٍ وقبليةٍ ومن تعصبٍ دينيٍّ أعمى وأضحى التعقُّل والحكمة ومكارم الأخلاق، التي طالما أضفيناها كذبًا على أنفسنا، مجرد سرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماء. ومن سوء حظنا، أن سوءاتنا التي كانت فيما مضى مستترةً، بسبب انحصارها داخل فضائنا السوداني المنعزل أصلاً، جعلها شيوع امتلاك الهاتف الجوال وتعدد تطبيقات وسائط التواصل الاجتماعي، فضيحة شاملة مرئيةً ومسموعةً لدى كافة سكان الكوكب. فأصبح من يعيشون منا في مختلف المهاجر خجلين منكسرين يرون الاستغراب في عيون مضيفيهم من الشعوب الأخرى، الذين يترفعون عن الإفصاح لنا عما يرون من فضائحنا، حتى لا يهيلون الملح على جرحنا النازف. إلى جانب ذلك، فقد سلطت علينا السماء ـــــ وللسماء حكمتها الخفية في كل ما تفعل ـــــ حكامًا جهلةً، منذوري الحظ من الوازع الديني والأخلاقي، ومن الثقافة العامة، بل ومن الغيرة على بلدهم وعلى سمعة مواطنيهم. حكامٌ، يمكن للمرء أن يصنفهم، وهو مرتاح البال، في خانة المرضى. حكامٌ فرضوا علينا أنفسهم بقوة السلاح، ليمارسوا نهمهم غير المحدود لاكتناز المال وهوسهم بإحراز السلطة واحتكارها، حتى لو أقيم كرسيُّها على كومةٍ من رماد البلاد والعباد.
نعيش الآن فضيحةً شاملة
كل ذلك مجتمعًا، جعلنا منا معرضًا فضائحيًا مفتوحًا للجميع، يمتد العرض فيه طيلة ساعات الليل والنهار. معرض مفتوح للفضائح الفكرية والأخلاقية، لا تفتر له همةٌ ولا تنقضي عجائبه. فنحن نعيش الآن في أتون فضيحةٍ مجلجلةٍ معروضةٍ على الجميع. فضحيةٌ عكست بجلاءٍ لا مزيد عليه، أننا أمة بربرية همجية. أمة بلا علم ولا ثقافة ولا أخلاق، لا تعكس بنيتها المهلهلة أي قدرٍ من الاتساق. لقد رآنا العالم عبر وسائط التواصل الاجتماعي ونحن نعرض في زهوٍ وابتهاج مشاهد مروعة شملت قطع رؤوس الناس وبقر بطونهم وجذب أمعائهم ونزع أجنة الحوامل من النساء من أرحامهن، وقتل النساء والأطفال وإذلال الشيوخ. كما شملت إمطار مجاميع المدنيين العزل بالرصاص وهم موثيقي الأيدي وملقون على الأرض على وجوههم. وفي الجانب الآخر من الصورة، والناس في تشرُّد وجوعٍ ومرضٍ وغربةٍ وانسدادٍ لأفق الأمل في حياة طبيعية، ينخرط قطاعٌ آخرٌ منا، ليل نهار، عارضًا عبر وسائط التواصل الاجتماعي حفلات “القونات” في دول اللجوء، وهن في أبهى زينتهن، يغنِّين ويتراقصن أمام الآلاف الذين احتشدوا لحضور تلك الحفلات الكبيرة وهم وقوف لساعات. عمومًا، لقد أضحت وسائط التواصل الاجتماعي، التي هي نافذتنا على العالم واقعةً في أيدي من هم أسوأنا أخلاقًا، وأقلنا علمًا، وأضحلنا فكرًا، وأبذأنا عبارة. بل، إن هذا يكاد أن يصبح الآن شيئًا طبيعيا,
عودة الهرم إلى وضعه الصحيح
تعبر هذه الأحوال البئيسة التي نمر بها عن انطفاء نور العقل، وجفاف منابع الحكمة. وهي أحوال يفاقمها إيثار العلماء والحكماء الصمت والفرجة على ما يجري. وغالبًا ما تقف وراء مثل هذه الأحوال فتراتٌ متطاولةٌ من الطغيان، التي يكون الطغاة قد عملوا فيها على تجهيل العامة بتغييب العقول وإزكاء النعرات البدائية. فنحن الآن وسط ما يسمى الهرج والمرج، مصحوبًا بغوغائيةٍ فالتة يصبح إسماع صوت العقل فيها أمرًا بالغ الصعوبة. هذا ما عمل الإخوان المسلمون من أجله منذ سطوهم على السلطة. لقد ضللوا العامة باسم الدين وبذروا بذور الشقاق بين المجموعات السكانية المختلفة بإذكاء نزعات الكراهية الدينية والعرقية والقبلية. بل لقد أزكوا روح الشقاق حتى بين العشائر في القبيلة الواحدة في استخدامٍ بالغ الخبث والقذارة لمقولة “فَرِّقْ تَسُدْ”. فسنوات حكمهم للسودان، التي بلغت حتى الآن ستة وثلاثين عامًا، قلبت هرم المجتمع السوداني، فأصبح عاليُه سافلَه، وسافلُه عاليَه. انزوى العلماء والحكماء وآثرت غالبيتهم الصمت، ولفت الحيرة من هم أقل من هؤلاء علمًا وبصيرةً وحكمة، وأعمى الغرض كثيرًا ممن لهم قدرٌ من نور العقل والحكمة. كما أفقروا الأغنياء الفضلاء وأغنوا الفقراء المتزلفين الأراذل. وهكذا انهارت البنى الطبيعة للمجتمع وتراجعت القيم وذهب الاحترام وخبت قناديل الثقافة وطفحت على السطح أصوات الدهماء المتزلفون الذين استثمر فيهم الطغيان الإخواني. فأصبح هؤلاء الجهلاء هم الأعلون، وأصبح الحكماء والعلماء وأهل الفكر والثقافة هم الأدنون. ونحن الآن في انتظار موعود الله الذي به ينقلب الهرم ليجلس في وضعه الصحيح، فيصبح عاليُه الذي يجلس عليه الطغاة وغثاؤهم، سافله. ويصبح سافله، الذي جرى حبس أهل الأخلاق ونور العقل والحكمة فيه، عاليَه. فلقد قال، جلَّ مِنْ قائل: “فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ.
دكتور النور حمد: سلمت وسلمت يداك
سلم يراعك وسلمت كلماتك.
هكذا تمت (جيقنة) الشعب السوداني عبر مشروع معاتيه و(أبجيقات) جماعة الترابي في المستنقع المنعدم السقف الأخلاقي. كيف أمكن لهؤلاء مرافقة الإنسانية للقرن الحادي والعشرين؟
إذا كان الفاقد التربوي من أئمة المساجد الصعاليق هم من يشكلون المجتمع . اتتوقع ان يخرجوا فلاسفة فإنهم لن يوخرجو الا الحرامية والصعاليق وقدادين البيوت
المقال جيد جد. لكن الاستاذ النور حمد حاد عن الطريق في اعتقادي بانضمامه لتأسيس و التي يقودها حميدتي و جيشها هو الدعم السريع. يبدو لي ان الاستاذ هنا يستخدم منهج الغاية تبرر الوسيلة و في هذه هو لا يختلف عن عمر البشير. البشير انشأ الدعم السريع لحمايته ظنا منه انه بامكانه القضاء عليهم بعدما يصل لهدفه. لكن هذا لم يحدث. كلنا شهدنا كيف تطور الدعم السريع و قوي عوده و تضاعفت قوته. انضماما شخصية مثل النور حمد و احزاب و اجسام اخرى للدعم السريع سيزيد من قوتها و يزيد اطماع قادة المليشيا. اتمنى من كل قلبي ان يعود النور حمد إلى صمود.
اتفق تماماً مع ما قاله عبدالسلام.
عداءنا للجماعات المتسربلة بالدين لا يجب ان توقعنا في صف الجنجويد والذين هم بعض نتاج الجماعة المسيلمية القذرة.
كتبت د. النور:
(تعبر هذه الأحوال البئيسة التي نمر بها عن انطفاء نور العقل، وجفاف منابع الحكمة. وهي أحوال يفاقمها إيثار العلماء والحكماء الصمت والفرجة على ما يجري. وغالبًا ما تقف وراء مثل هذه الأحوال فتراتٌ متطاولةٌ من الطغيان، التي يكون الطغاة قد عملوا فيها على تجهيل العامة بتغييب العقول وإزكاء النعرات البدائية. )
أخي د.النور محمد حمد
لك دائما تقديري واعزازي
يبدو ان العلماء والحكماء هم ما عرف باهل الحل والعقد. وهو تعريف يرد لسياق تاريخي بعيد. وهو نفس السياق الذي ولد مقابله الدهماء والرجرجة. أو العامة.
الأفضل، في نظري، ان نسمي الفصائل بلغة الحاضر النخبة مقابل الشعب. أو المثقف مقابل الشعب.
واضح من وقائع اليوم ان الطريق لتحقيق مرتبة الشعب كحقيقة قانونية لهو طريق طويل. فأرسطو ذلك المثقف العضوي هو من اقر بان تكون السلطة للشعب. وهو حق لم يعترف به بعد.
وحتى في الدول الديمقراطية تنتقص حقوق الشعب بعلو غرفة ثانية فوق برلمان اختاره الشعب.(مجلس شيوخ مجلس لوردات، كيفما اتفق.)
تكمن المعضلة الطبقية بقوة في هذا التعدي على حق طبيعي. ذلك ان ماديسون الرئيس الأمريكي الخامس المسمى بابي الدساتير، صمم انتقاص حرية الشعب لان سلطة الشعب الكاملة وفق فلسفته ستنزع ممتلكات
الأثرياء. والاثرياء دائما قلة.
ثورات السودان الثلاث دليل دامغ ان قاطني هذه الجغرافيا هم شعب اصدر قراره بنهاية نظام.
فأين الخلل؟ الخلل في النخب ولا شك.
نتتبع اخفاقين للنخب في التفاعل مع واقع البلاد.
أولا موقف حمدوك وموقف اليسار:
اعتقد ان السيد الدكتور حمدوك ارتكب خطأين.:انه ولى ظهره للثورة على عجل. أكيد هذا مطلوب المشروع الرأسمالي. ولكن وهو الأدري بواقع البلاد، تجاهل انه في حاجة لقوة الثورة لاستكمال بعض ضرورات تتعلق بتصفية اعمق لبعض ميراث الإنقاذ. كان يحتاج ان يكون ثوريا لبعض الوقت، فقط لضمان سلاسة هذا المشروع نفسه.
الخطأ الثاني عدم الشفافية حيال هذا المشروع. والشفافية تعني التوسع في شرح الوضع الدولي وشرح القوة والضعف. وبالطبع هذا ليس بالأمر السهل فهو ينطوي على تبرير لما عرف لزمن طويل بانه جبن وخيانة. وبالرغم من هذا فأنه لو شرح واسهب كان محتملا أن يجد سندا معقولا من قطاعات مقدرة من الشعب. واعتقد بين شبيبة الثورة من سيسانده. ذلك ان اعدادا منهم لهم ميول ليبرالية.
موقف اليسار:
هذا ومن جانب اخر في المشهد طرح اليسار برنامجا اقتصاديا على الرغم من ثقتهم وعلمهم بان حمدوك سيلقيه في سلة المهملات ممزقا. وهو ثمرة جهد كان الأنسب أن يتركز في المطالبة بشرط الديمقراطية. لان هذا المشروع الامبريالي يقبل وقبل أن يطبق في نظم شمولية دكتاتورية.
الموقف الثاني موقف تجمع نيروبي.
وجهة الاجتماع اعلان حكومة. يعني كان تخطيطا لسلطة فوقية.
السلطة الفوقية هي أسوأ سيئات حقبة 56.
الفوقية تهيل التراب على قيمة الشعب.
يحتاج المشهد ولو إلى القليل من روح ثورة ديسمبر. ولأن تجمع نيروبي ضم ثلة من عناصر لا طعن في وطنيتهم ولا ولائهم، فهم من يوجه لهم هذا المقترح باستصحاب الشارع، ذلك بإعلان انفسهم حزبا أو تحالفا سياسيا. الساحة خلو من تنظيم له بعض مرجعية ديسمبرية. والشارع في حاجة لاسترداد بعض من حيويته.
كما ان قيام حزب أو تحالف سيشهد جدالا ضروريا لتنقية صفوفهم من مثالب وعناصر انتهازية تعرفها كل التنظيمات السياسية.
بالطبع هذا لهزيمة سلطة بورتسودان المدمرة.
نستخلص من هذا الحديث المضغوط كيف ان شعب السودان كافح ليكون شعبا ذا قرار، وكيف ان النخب فشلوا في مسئولياتهم بخلق التوازن بين الداخل والخارج.
دائما لك تحياتي وتقديري أخي د. النور محمد حمد.