عبد الخالق محجوب: ويُولد الانقلاب من الثورة (1-6)

أريد بهذه الورقة دراسة الحرج الأخلاقي والسياسي المأسوي للحزب الشيوعي السوداني الذي لا أعرف من توقى من الانقلاب العسكري مثله، بل حرّمه ثلاثاً، ثم أنتهى موزوراً في الممارسة بانقلابين في 1969 و1971. وكاد الانقلاب الأخير أن يذهب بريحه. وتريد الورقة أن تخرج بهذا الوزر الشيوعي إلى رحاب التاريخ من نهج يومية التحري الذي خضع له تحليل الانقلابين لعقود بأسئلة من شاكلة من أمر بالانقلاب؟ ومن قام به؟ أو علم به؟ أو تستر عليه؟ وهو نهج يفترض سيطرة القائمين على الشيء على فعلهم في التاريخ بينما يقوم نهج البحث التاريخي على أن للسياق الثقافي الاجتماعي الذي تقع فيه الحادثات جبراً على القائمين بها، وستقع المصائب أحياناً غصباً عنهم حتى لو أحسنوا التحسب للمستقبل.
ستنظر الورقة في تطور النهج المعادي للانقلاب في الحزب الشيوعي الذي عدّه مسارعة فطيرة غير مأمونة العواقب على الثورة السودانية. ولأن الحزب الشيوعي ليس كياناً قطعياً متفقاً على فكره وممارسته بين أعضائه (حتى قال المؤرخ محمد سعيد القدال إنه كان “حزبان في تنظيم واحد” حين لقي انقلاب 25 مايو) فسأعرض لهذا النهج غير الانقلابي في فكر وممارسة عبد الخالق محجوب، سكرتير عام الحزب لسنوات 1949-1971، الذي اشتهرت عنه عبارة “الصبور الدؤوب” في وجوب الأناة في شغل التغيير الاجتماعي . ووجد هذا النهج تعبيره البرنامجي الأدق في دورة اللجنة المركزية للحزب في مارس 1969 قبل شهرين من انقلاب جعفر النميري في مايو 1969. وهي الدورة التي اصطرعت حول وجوب التكتيك الانقلابي وخلصت إلى أنه، أي التكتيك الانقلابي، “بديلاً عن العمل الجماهيري يمثل في نهاية الأمر، وسط قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية، مصالح طبقة البرجوازية والبرجوازية الصغيرة” .
وسنبحث في الخبرة السياسة الشيوعية التي تجسدت في هذه العبارة القاطعة تطويراً لمفهومي لحرج الشيوعيين الأخلاقي حيال الخطة الانقلابية الذي ميزت فيه بين وجه الحزب الجماهيري “البروليتاري”، المتجسد في خطه السياسي الجماهيري الرسمي، وقناعه البرجوازي الصغير الانقلابي الذي نفذ قدره .
البرجوازية الصغيرة: الانقلاب مهنتي
تبدأ بتعريف البرجوازية الصغيرة المتعلمة الموزورة عند الشيوعيين في خصائصها التاريخية والاجتماعية السودانية. وعَلِق بها اسم “الصفوة” مؤخراَ بعد أن عُرفت قبلاً ب”الخريجين” “والمتعلمين” و”المثقفين” بقرينة التعليم الذي استفادوه من الاستعمار. وهي طبقة قل النظر في سياستها ومناشئها الفكرية والمادية عندنا وعند غيرنا. وعوّضنا عن ذلك بالتباكي على فشلها وإدمانها الفشل تباكياً هي النادبة الأعلى صوتاً فيه والأغزر دموعاً. والمعلوم أن البرجوازية الصغيرة في الرأسمالية الكلاسيكية طبقة بينية، بين طبقة البرجوازية المالكة لوسائل الإنتاج وبين الطبقة العاملة التي تبيع قوة عملها للبرجوازيين. وخلافاً للعمال المجردين من وسائل الإنتاج فهي طبقة صغار المنتجين مثل تجار السوق والحرفيين أصحاب الورش والمزارعين المالكين لقطع أرض. ويدخل في عدادهم من يبيعون قوة عملهم الذهني من “الأفندية” والمهنيين والطلاب بما سيكونون عليه.
هذا هي الطبقة في سياقها الأوربي. فما خصائص هذ الفئة الحضرية عندنا؟ أصلها في فئة الأفندية المصطنعة المُقحَمة على مجتمعنا. فنشأت هذه الفئة في ظروف امتلك الاستعمار زمام الأمر وزودها ب”عدة الشغل” بتعليم حرفي في لغته الإنجليزية في الحسابات والترجمة والهندسة لتعمل في الوظائف الدنيا في ديوان الدولة. وتبوأت هذه الفئة بالنتيجة مكانها في المجتمع كسباً في مجتمع ساده أهل الإرث في الجماعات الصوفية أو زعامات العشائر. وصدق في استقلالها كطبقة قول منصور خالد عن الكاتب المصري غالي شكري من أن الاجازات العلمية التي تمنحها مدراس التعليم الاستعماري لأفراد هذه الفئة بمثابة شهادات ميلاد طبقية أكثر منها درجات تحصيل ثقافي . وعليه فهي لم تنشأ في ظروف مثل أوربا من فوقها برجوازية محلية أنجزت ثورتها وحدّثت مجتمعها، فأمِنت. أما عندنا فقد كان فوق هذه الفئة بالكسب طبقة تقليدية إرثية سميناها قديماً “شبه إقطاعية”. وللبرجوازية الصغيرة فيها، بواقع تعليمها الحداثي الغربي، سوء ظن فاحش لأنها عندهم عنوان تخلفنا والحائل دوننا ورحاب الحداثة التي أوصانا بها المستعمرون. واشتكي منصور خالد في “حوار مع الصفوة” (1979) نيابة عن صفوته من تقلد الطبقة التقليدية الصدارة “دون تأهيل من خلق أو كفاية” .
ولذا لم يهدأ لهذه الفئة بال تريد أن تحل مكان الصفوة التقليدية في قيادة البلاد لترفع عن شعبها “وصمة التخلف والفقر والمرض”. ولتخلو بأهل السودان عن سادة الإرث سمتهم ب”الشعب” في مذكرة مؤتمر الخريجين (خريجو مدارس السودان الحديثة تأسس في 1938)، الذي تزعم تياراً غالباً في الحركة الوطنية ضد الاستعمار الإنجليزي، في أبريل 1942 للحاكم العام.
لا أعرف من سبق إلى تشخيص أزمة هذه الطبقة مثل محمد هاشم عوض، الأكاديمي والوزير، وفي وقت باكر في 1968باستقدامه لمفهوم “البلوتكرسي” إلى طاولة البحث. والمصطلح إغريقي لحكم الأثرياء الوراثي في بلد ما. ودولة الإرث هذه ما ساد في النظم البرلمانية عندنا وحال دون البرجوازية الصغيرة وسدة الحكم لتطلق العنان لمشروعها الحداثي. ووصف محمد هاشم عوض الحكم في بلدنا بالبلوتكرسي من خلال تحليل اقتصادي واجتماعي نير. فنظر إلى عنصر الإرث ومؤسساته في الجماعة الدينية والعشائرية الحزبية محللاً منازل أهل الحكم عندنا في المجالس النيابية شمل فيها المجلس الاستشاري لشمال السودان (1944) والجمعية التشريعية (1948) والبرلمان الأول (1954-1958). فوجدنا دولة للأغنياء سادوا جَامعين تليد النفوذ القبلي والطائفي إلى طريف الجاه والمال .
واتسمت حياة هذه البرجوازية الصغيرة وهي تصطدم بالغلبة الطائفية بالضجر والمغامرة. ولا أعرف من صور ألمعيتها الهضيمة في مجتمع يسوده أهل الإرث قاطعاً طريقهم للريادة مثل الشاعر محمد المهدي المجذوب بقوله “نحن في مسألة الحكم بين نارين: جهل الطائفية وعصبية الهاربين من ذكائهم، وبين الاثنين تحالف غير مكتوب” . أما مغامرتها فتجسدت في تبنيها، بمختلف ألوانها السياسة أو الإيدلوجية والمهنية، خطة الانقلاب العسكري (أو الحركات المسلحة في غير مركز الحكومة) لكسر ظهر الكيان الإرثي السياسي. فلا سبيل لصغار البرجوازيين، وهي خلو من النفر والغزارة، للتخلص من طبقة الإرث بالطريق البرلماني الليبرالي . ورأيناها تنجح في ذلك بالانقلاب في 1969 وفي 1989 وتفشل في غيرهما في حمى منافسة أجنحتها للسلطان دون الطبقة الحظية الإرثية. ومتى تمكنت بالانقلاب في ظل دولتي نميري والبشير هدت حيل هذا الكيان بالتأميم ودك حصون دوائر الإرثيين المالية والزراعية.
عبد الخالق محجوب والبرجوازية الصغيرة: لا نجوت إذ نجت
كنت من بين من استمعوا جيداً، وعن كثب، لفهم عبد الخالق للصراع الذي دار في حزبه قبل وبعد انقلاب 1969 وحول التكتيك الانقلابي بصورة رئيسية. وكان من رأيه أن حزبه كان آنذاك في بلاء شديد مع البرجوازية الصغيرة الغفيرة في البلد نافذة السلطان وفي الحزب إلى حد كبير. ومن رأيه أنه متى صمد الحزب لهذا الابتلاء وخرج منه، وبأقل الخسائر الممكنة، برؤية للتغيير كنشاط جماهيري من الجذور، تحول إلى حزب للكادحين حقاً في القلوب التي بين الصدور لا على مستوى الشعار فحسب.
عَرَّف عبد الخالق محجوب الصراع داخل الحزب، الذي بدأ في اعقاب ثورة 1964م وبلغ أشده بعد انقلاب مايو 1969م وخلاله، بأنه صراع بين أيديولوجية البرجوازية الصغيرة والماركسية. وعبد الخالق مؤرخ مدقق في الصراع داخل حزبه. وقد اقتنع بأن نمو الحزب يقع من خلال الفرز و”التطهير الطبقي”. ففي كتابه “لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني 1987م” أذاع فكرة عمدة في الماركسية هي أن الحزب نفسه لا تخلو صفوفه من خصوم للطبقة العاملة. ومن وجهة النظر هذه فإن أي مواجهة بين إيديولوجية الطبقة العاملة وبين غيرها من الإيديولوجيات الغريبة عنها تنقي معدنه وجوهره البروليتاري وتصقلهما في خاتمة الأمر.
فقد أزفت في آخر السيتينات من القرن الماضي في رأي عبد الخالق ساعة رسم الخط الفاصل بين منهج الطبقة العاملة ومنهج البرجوازية الصغيرة في الثورة السودانية. وهذا ما يمكن تسميته بقانون نمو الحزب. ولخصه عبد الخالق في كتابه لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي (1960 طبعة 1987) بقوله إن الصراع الداخلي في الحزب منذ أول نزاع وقع فيه عام 1947، أي بعد عام من تأسيسه في 1946، لم يكن أمراً معزولاً عما يتدافع حوله أهل مجتمعنا من مصالح وغايات، بل كان باستمرار “جزءاً من صراع الطبقات” في السودان. و”أن كل صراع في داخل حزبنا ما هو إلا انعكاس للصراع الطبقي خارجه”. وكل اتجاه مناف للماركسية فيه “ما هو إلا انعكاس لفكر طبقة خاصة أو دائرة اجتماعية معينة” وأن على الحزب في حرب المصالح الغريبة عن مصلحة الطبقة العاملة فيه، أي الانتهازية، ألا يجتث جذور أفكارها فحسب بل ظلال تلك الأفكار . ومن جهة البرجوازية الصغيرة قال عبد الخالق إن حزبه، مثله مثل كل حزب في بلد كالسودان، غاص بأفكار البرجوازية الصغيرة من المزارعين المتوسطين وصغار الموظفين والتجار والحرفيين. وسبيله لحرب الجمود، الذي تتصف به أفكار هذه الفئة في المنعطفات الحرجة، أن يسمي الأشياء بأسمائها “وأن يعتبر كل صراع داخلي جزءاً من صراع الطبقات. وبهذا الفهم الماركسي وحده يحافظ على نقائه وأن يقي أعضاءه من مزالق الجمود والانهيار” .
ولم يكتشف عبد الخالق عاهة البرجوازية الصغيرة فجاءة في حمى آخر ستينات القرن الماضي. فقد كان شاغل عبد الخالق أبداً تربية الحزب بفطرة المستضعفين وأدبهم لئلا يكون حزباً صفوياً برجوازياً صغيراً أو كبيراً. ونضرب لهذه التربية مثلاً بما كتبه في إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير (1963 طبعة 2001) الذي ربما كان المحاولة التربوية المنهجية الأولى التي سعت لفرز ما للشيوعي مما للبرجوازي الصغير. وحمل عبد الخالق في هذا السياق على تقعر الشيوعيين وتبرجهم بالنظرية بين الجماهير ورده للأصل البرجوازي الصغير. فطلب من الشيوعيين مراعاة حتى حق الناس في الأنس الاجتماعي كيف شاءوا لا يفرضون عليهم كلام السياسة ظناً أن ذلك من الثورية بينما هو في الواقع “ثورية الفوضى والبرجوازية الصغيرة” .
وتوسع عبد الخالق في نظرته للصراع في الحزب كدراما نزاع بين منهج سواد الناس ومنهج البرجوازية في الماركسية وقضايا الثورة السودانية، تقرير المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي في 1967. ففي هذه الوثيقة أرخ عبد الخالق لصعود البرجوازية الصغيرة كقوة مستقلة على مسرح السياسة السودانية في معرض تحليله للظروف التي أقعدت الحزب دون استقبال فترة ما بعد سقوط نظام عبود، التي بدأ في تحديد معالمها منذ 1961، بالهمة المرجوة. فقد سادت الحزب الاتجاهات اليسارية في الأداء السياسي خلال مقاومته لنظام عبود فأنهكته. وبلغ من قوة هذه الاتجاهات أن واجه انقساماً في خريف 1964 قبيل ثورة أكتوبر بأسابيع قليلة. وهو انقسام “القيادة الثورية” التي كونها أحمد شامي ويوسف عبد المجيد عضوا مركزية الحزب. وبشرت هذه القيادة بأن لا طريق للقضاء على نظام الفريق عبود إلا بالثورة المسلحة على نهج الثورة الصينية. فأضاع الحزب المٌبتَلى بالوهن من جراء كل ذلك فرصة أن يكون هو القيادة الجامعة المانعة لثورة إعادة الديمقراطية كما كان ينشد. وبالنتيجة أخذت سدة هذه القيادة قوى مثقفي البرجوازية الصغيرة المنتظمين في جهاز الدولة بقدرتهم على الحركة المباشرة وعلى النطاق الوطني. وبرغم دور الحزب في تكوين جبهة الهيئات التي قوامها المهنيون والنقابيون، التي قادت الثورة حتى انتكست، وهو يغالب الضعف إلا أن بروز هذه الجبهة ?كان في قاعه يعبر عن تطلع الأقسام التي تقدمت الإضراب (مثقفو البرجوازية الصغيرة) لإيجاد قيادة تعبر عن مطامحهم. كان (بروز هذه الجبهة) يعبر عن حقيقة أن هذه الأقسام (من المجتمع) لم تكن ترى موضوعياً في تنظيمات الطبقة العاملة معبراً عن أمانيها” .
وخلافا لسابق الصراعات داخل الحزب ضد البرجوازية الناشئة حينها بين سنوات 1949-1951م فإن الصراع ضد البرجوازية الصغيرة، كما يراه عبد الخالق، دقيق كثير التعقيد والبواطن. فأماني هذه الطبقة تتطابق إلى حد كبير مع أهداف المرحلة الوطنية الديمقراطية التي تضمنها برنامج الشيوعيين. ومن الأهمية بمكان العلم بأن هذه الطبقة تشكل غالبية السكان في السودان وأن من صفوفها ينحدر العمال كما يتأثر الشيوعيون بأصلهم البرجوازي الصغير بصور مختلفة. وتتعقد علاقة الشيوعيين مع هذه الطبقة أكثر من غيرها بآصرة القرابة القديمة التي ربطت كلا من الحزب والطبقة العاملة بها. فمن رأي عبد الخالق أن هناك عوامل اضافية تجعل من المعركة ضد البرجوازية الصغيرة معركة شرسة وضارية. والعامل المقدم هو أن هذه الطبقة، التي ظلت مبعثرة بين مختلف الأحزاب، قد بدأت تُجَمْع صفوفها آنذاك وتشق طريقها لنشاط واسع، تذيع أيدولوجيتها، وتمارس تكتيكاتها على المسرح السياسي بين الجماهير ومن تحت رايتها المستقلة. فخلال ثورة أكتوبر 1964 قادت برجوازية المدن الصغيرة الجماهير ضد الطغمة العسكرية. وقد أصلى الحزب الأداء السياسي لهذه الطبقة شواظ النقد في تقرير مؤتمره الرابع (1967) لتهافتها لمَّا اشتد عليها نكير الاحزاب التقليدية. وكان من رأي المؤتمر أن هذه الطبقة ستلحق ضرراً فادحاً بالثورة إذا ما تشبثت بمركز القيادة فيها. ويُستفاد من قيامها بانقلاب مايو 1969م، في وجه مخاطر عديدة وخرقاً لأعراف مستقرة في السياسة، أنه لا شيء من ميثاق أو رصانة سيقف دون الفصيل العسكري من البرجوازية الصغيرة ودون إقحام طموحات هذه الطبقة على سياسة وتطور البلد .
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. تقرير الأستاذ عوض عبد الرازق
    المُقدم إلى:
    مؤتمر الحركة السودانية للتحرر الوطني
    في أكتوبر 1952 

    تقرير السكرتير التنظيمي للحركة السودانية للتحرر الوطني عن الفترة من يوليو 1947 – أكتوبر 1952

    ? التحية لكفاح الشعب السوداني ضد الاستعمار.
    ? التحية للجماهير التي أحبطت مؤامرة الجمعية التشريعية.
    ? التحية لحركات التحرر الوطني وهي تحقق الانتصار تلو الانتصار.
    ? التحية لثورة مصر.
    الرفاق الأعزاء:-
    من الأهمية بمكان الاعتراف بنمو وتطور المقاومة ضد الاستعمار البريطاني الجاثم على صدر شعبنا، ذلك النمو الذي نشهده في اتساع النشاط الشعبي الناجح في تأسيس هيئة شئون العمال والاتحاد النسائي ومؤتمر الشباب واتحاد الكلية الجامعية. تلك الخطوات الأولى لمقاومةٍ شعبية تراكمت حتى تفجرت تظاهرات رافضة للجمعية التشريعية مما أجبر القيادات التقليدية للتصدي للمهام الوطنية والسير قدماً في إفشال المؤامرة الاستعمارية لتدجين الحركة الوطنية واحتوائها. معلوم لدينا أن أهداف الأحزاب قد صيغت بإحكام حتى تحدد مستقبل البلاد السياسي ? الاستقلال أو الاتحاد، أي أنها اهتمت بقضية التحرير وأغفلت عن عمد قضية البناء والتعمير التي هي جوهر برنامج الحركة السودانية للتحرر الوطني الداعي للتنمية والتغيير الاجتماعي العميق الذي يفضي إلى طريق وطن ديمقراطي يسير بشعبنا نحو الاشتراكية ? الطريق الوحيد للتطور والتقدم في هذا العصر، وقد أثبتت الحركة السودانية للتحرر الوطني أنها بؤرة المقاومة التي التف حولها الشعب منذ مولدها. وقد أسهم الرفيق عبدالوهاب زين العابدين في بناء قواعدها رغم الاخفاقات التي تجلت في تبني حق تقرير المصير تحت التاج المصري، وضُرب حولها سوراً من العزلة حتى تاهت في دهاليز السرية بعيداً عن مهامها في نشر الفكر التقدمي العلمي المناهض حقاً للاستعمار البريطاني مما أفقد الحركة فرصاً عزيزة في الانتشار وتوسيع قواعدها. وبمجرد تكليفي من اللجنة المركزية بتحمل مهام السكرتير التنظيمي في يوليو 1947 عملت مع المكتب السياسي على انتهاج خط سياسي جديد يتجه نحو الشعب مباشرة فعمدنا إلى نشر الفكر الماركسي بين عضوية الحركة على أسس منظمة مما أتاح للحركة فرص استقطاب أعضاء جدد من الطلاب والخريجين فتأسست المنظمات الجماهييرية التي أعطت حركتنا المقدرة على التصدي لقضية الجمعية التشريعية ودفع الأحزاب الاتحادية دفعاً لمعركة الشارع التي خضناها بجدارة وكانت تمريناً عملياً أكد قدرة وعمق جذور الحركة في تُربة الواقع السوداني. تلك الانتصارات قد ألقت على عاتق الحركة مهام جديدة نوجزها فيما يلي:
    أولاً؛ توسيع قاعدة عضوية الحركة كمياً ونوعياَ، وذلك بالغوص في صفوف الشعب على مختلف طبقاته وفئاته مما يجعلنا نطور نهج المواجهة الذي بدأته الحركة في أحداث الجمعية التشريعية إلى تحالف وطني عريض معادٍ للوجود الاستعماري، وعلى هذا الطريق علينا الاهتمام بالقضايا التالية:
    a) إبعاد كل خط سياسي يدعو للانغلاق والعزلة ولا يدعو لإستقلالية منبر الحركة، أو يدعو للذوبان في الأحزاب الأخرى. فالطريق هو تأكيد شخصية الحركة المستقلة من خلال المعارك اليومية التي تستطيع أن تثبت من خلالها طليعيتها وقدرتها القيادية للحركة الوطنية وفي سبيل إجلاء الاستعمار والتحرير. لذلك نؤكد أهمية وجود جبهة شعبية واسعة معادية للاستعمار حتى تؤدي تلك المهمة في طريق الكفاح المشترك بين شعبي وادي النيل ضد الاستعمار.
    b) تحجيم الخط اليساري المتعجل الداعي للقفز فوق المراحل بتحويل الحركة السودانية للتحرر الوطني لحزب شيوعي (ماركسي لينيني) مستنداً على العمَّال والمزارعين والمثقفين الثوريين وذلك للأسباب الآتية:
    – طبقة العمَّال في بلادنا مازالت طبقة وليدة تنحصر في عمَّال الخدمات (سكة حديد، البريد، موانئ، نقل نهري) وهؤلاء جميعاً دورهم مساعد وثانوي. فالعمَّال طبقة مازالت في طور التكوين ولم يكتمل تطورها ولن يكتمل إلا في ظل الثورة الوطنية الديمقراطية التي من مسئولياتها الرئيسية تحقيق بناء صناعي واسع يجعل من العمَّال طبقة قائدة وقادرة على بناء حزبها الطليعي القوي الذي يسير بها وبالمجتمع نحو الاشتراكية.
    – أما المزارعون فيطابقون في وعيهم مستوى الانتاج الزراعي، فالزراعة في كل السودان ما زالت زراعة اكتفائية (subsistent agriculture) موسمية وحتى أرقى أشكالها (مشروع الجزيرة ومشاريع الإعاشة) ضعيفة وليست ذات أثر. ولم يشكل المزارعون كطبقة اجتماعية ذات هموم ومطالب ووعي يؤهلها لتحقيق تحالف العمال والمزارعين.
    – الفكر الماركسي اللينيني ما زال فكراً منحصراً في أوساط الأفندية الذين يعانون أبلغ معاناة في فهم فلسفته كفكر بعيداً عن الشعارات. فإنشاء حزب شيوعي على تلك الأسس والمعطيات يعد عمل سطحي يساري طفوليَّ لا سند له سوى الجمل الثورية غير المستوعبة للظروف الوطنية وهذا يؤكد تناقض جوهري ينفي العملية ويبرز ممارسة تقليدية تعتمد على التلقين والإشارة. فنقل تجارب الشعوب والأمم من حولنا دون فهم ظروفنا الخاصة مستلهمين في ذلك التجارب يعد عبثاً خطيراً. فالمتتبع لتجارب التاريخ يعرف أن الثورات العظيمة لا تنبثق إلا من استيعاب الشروط الموضوعية والذاتية وعلى رأسها فهم التاريخ والتراث والتقاليد وإخضاعها للنهج الذي استفاد من كل الثقافة الإنسانية الجديدة والظروف الخاصة لكل قطر من الأقطار.
    – إن طريق التعجل السياسي ينذر بفقدان الحركة السودانية للتحررالوطني مواقعها كطليعة ديمقراطية يلتف حولها أكثر أبناء شعبنا ذكاءاً وإذا تعارضت مع قيم وتراث فإنشاء حزب شيوعي يدعو إلى الاشتراكية لم يحن أوانه بعد وربما يدفع نحو المقامرة التي لا تراعي المراحل، وقد يحدث شرخاً عظيماً في وجدان المجتمع ويهدم كل البناء ولعمري إنه طريق الفشل.
    ثأنياً؛ الحركة السودانية للتحرر الوطني غرست أقدامها عميقاً في أوساط الشعب باجتذابها العناصر المستنيرة والفئات الأكثر وعياً أو مصلحة (طلاب، موظفين، عمَّال.. إلخ) مما يرشحها لأن تلعب دوراً هاماً في البناء الوطني الديمقراطي بالرغم من وجود عقبات أساسية نوجزها في:-
    a) نشأة الحركة الوطنية السودانية تحت تأثير الزعماء الدينيين (المهدي والميرغني) وهما يعملان على تأكيد تأثيرهما بشكل طائفي وكلما زاد دورهما ضعف النشاط الديمقراطي. فدورهما علامة ضعف أساسية للديمقراطية. فالحركة السودانية للتحرر الوطني معنية أكثر من غيرها في ترسيخ قيم الديمقراطية بتوجيه نشاط المنابر الديمقراطية بعيداً عن السقوط في أحضان الزعماء الدينيين، فهم دائماً ما يعملون على تغذية البذور الطائفية المهددة للتطور الحُر الديمقراطي.
    b) من المهددات للتطور الديمقراطي اليسارية الطفولية التي تتعجل الانجازات وتتجاوز المراحل في التطور الوطني بغرض فرض خيارات تتناسب مع الظروف الموضوعية على نحو الدعوة لتحويل الحركة السودانية للتحرر الوطني لحزب شيوعي مما يؤسس للعزلة والقطيعة بين الشيوعيين والديمقراطيين وينفرط عقد تحالفاتهم ودورها الرائد كمنبر ديمقراطي تأسس من خلال نضال الديمقراطيين والوطنيين بالدرجة الأولى.
    c) ومن المخاطر المهددة للتطور الوطني الديمقراطي الوجود الاستعماري الذي أسس نظام حكم على النمط الاستبدادي العسكري. فمنذ اليوم الأول للغزو الاستعماري ترسخت أقدام التسلط المعادية للديمقراطية فالحاكم العام وسكرتيريه هم كل المؤسسات (تشريعية ? تنفيذية – قضائية) فلا يمكن الحديث عن ديمقراطية في ظل هذا الدمج. فهذه التقاليد التي يجب أن يمحوها نشر الوعي الديمقراطي كي لا تظل نقطة ضعف وطريقاً مفتوحاً نحو سيادة التسلط الاستبدادي وبذرة للديكتاتورية. فمن الضروري أن تعمل الحركة السودانية للتحرر الوطني على نشر الوعي الديمقراطي حصاراً لبذرة الاستبداد التي تشيد لنفسها موقعاً في أرضية البناء القائم الآن.
    ثالثاً؛ منذ تولي المكتب السياسي مهامي كسكرتير تنظيمي وتكليفي سكرتيراً عاماً أخذت الحركة السودانية للتحرر الوطني تسير في علاقاتها الخارجية في طريق الانكفاء على الحزب الشيوعي السوفيتي والبلدان الاشتراكية. ونعتقد أن هذه العلاقة ضرورية وتكتسب أهمية استراتيجية ولكنها لا تتعارض مع العلاقات بحركات التحرر الوطني العربية والأحزاب اليسارية في آسيا وأفريقيا واضعين في الاعتبار أهمية الأحزاب الشيوعية واليسارية والديمقراطية في أوروبا وذلك لكي تكتسب الحركة حلفاء وأصدقاء جدد لقضية الشعب السوداني في طريق الحرية وحق تقرير المصير والاستقلال وتحقيق مهام الثورة الوطنية الديمقراطية التي تحتاج إلى أصدقاء ديمقراطيين عاجلاً أم آجلاً.
    رابعاً؛ ما زال من واجبات الحركة السودانية للتحرر الوطني المركزية تحقيق تحالف شعبي واسع معاد للاستعمار حتى تتحقق مهمة إجلاء الوجود الأجنبي والسير في طريق الثورة الوطنية الديمقراطية التي من أسسها الضرورية ذاك التحالف الجبهوي العريض. فعلينا منذ الآن تكثيف الجهود من أجل جبهة معادية للاستعمار كمقدمة لجبهة وطنية ديمقراطية تجعل الاستقلال السياسي يتكامل مع الاستقلال الاقتصادي والسير في طريق التطور اللارأسمالي.
    خامساً؛ بعد انتقالي إلى مدينة بورتسودان في يناير 1949م انتقل تكليفي كسكرتير تنظيمي إلى المكتب السياسي الذي كلف سكرتيراً عاماً. وما زلت لا أرى ضرورة لتوسيع الهياكل التنظيمية للحركة وأن تطور المهام يجب أن يسير تدريجياً مع نمو الحركة وزيادة عضويتها وقدراتها المادية وهذا لحماية الحركة من الاتجاهات اليسارية المتعجلة واليمينية التي ما زالت لم تستوعب العالم الجديد الآخذ في الظهور فاتحاً الباب واسعاً للاشتراكية وانتصار حركات التحرر الوطني وبناء عالم جديد تسود فيه قيم الديمقراطية والعدالة.
    المجد والنصر لكفاح الشعب السوداني
    المجد والنصر والخلود للحركة السودانية للتحرر الوطني طليعة الديمقراطية
    النصر حليف حركات التحرر الوطني في العالم أجمع

    أكتوبر 1952
    عوض عبد الرازق
    السكرتير التنظيمي للحركة السودانية للتحرر الوطني

  2. يا عبدالله لك اكثر من عمر الانقاذ تكتب عن الهالك عبدالخالق ماذا فعل هذا المأفون للسودان وماذا فعل الشويعيون للسودان اين انتم الان مما يرتكب بحق البلد فلماذا تهابون الموت في سبيل الوطن الم تعلم ان المبادي للمشانق سلم كما قال الشاعر
    سلكنا طريقا وكنا نعلم ان المبادي للمشانق سلم
    ام ان الامر عندك طق حنك ؟ كم عمرك اليوم ؟ ماذا تنتظر اقدم وموت من اجل السودان او دع عنك هذه التخريفات عن الشويعيين والله حسنا فعل النميري باعدامهم ياليته لو واصل حتي الهالك نقد وامثاله

  3. كنت أريد التعليق – و أتمنى ألا يقف الأستاذ همت ضد نشره- و لكني آثرت أن تنتهي الحلقات الست التي وعد ع ع إ بكتابتها حول هذا الموضوع

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..