مقالات وآراء

 السودان في مفترق طرق

د. عمر أحمد صالح

كلمات معدودة تفوّه بها الكاتب والأديب السوداني العبقري الطيب صالح (عليه رحمة الله) كانت كافية لتلخيص حال السودان في معرض إجابته عن سؤال “ماذا فعل العسكر بناس السودان الطيبين” واجاب قائلاً “أنا طبعاً من ناحية المبدأ وتكويني الفكري، حقيقة؛ لا أؤمل كثيراً من العسكر في الحكم، …” إلى آخر الفيديو المبذول في الوسائط، ولعل الاستدلال بهذه الشهادة مهم لأنها تمثل أحد أصحاب الفكر الحر، مجرد من الغرض والمرض ومنطلق من معرفة عميقة وتجربة حافلة، وهذه العبارات التي أطلقها قبل عقود من الزمان تتجاوز سياقها الزمني خصوصاً عندما قال “وقد جلبوا علينا شراً كثيرا”.
المؤسسة العسكرية في السودان تمتلك مشروع سلطة في وضع الاستعداد والانتظار للاقتران بالغطاء السياسي تحت ذريعة إصلاح المسار الذي يعرقلونه عمداً، لذلك تأرجحت سنوات حكمهم في السودان بين توجهات مختلفة ومتناقضة ما بين اليسار واليمين، ولا يربط هذه التجارب التي أتى بها العسكر سوى السلطة، وأبرز تجليات هذه التجارب هي سياسات الانغلاق المتعددة والتي فرضت من الخارج كعقوبات اقتصادية حيناً او نابعة من الداخل نتيجة عدم الاستقرار السياسي والصراعات المسلحة أحايين أخرى، وقد أدت إلى آثار سلبية عميقة في مختلف مناحي الحياة.
أوردت سياسات الحكم العسكري السودان العقوبات الاقتصادية، خاصة الأمريكية والأوروبية، إلى حرمان المصانع السودانية من استيراد قطع الغيار الأساسية والبرمجيات اللازمة لتشغيلها وصيانتها. هذا أدى إلى توقف العديد من المصانع بشكل كامل، خاصة تلك التي تعتمد على التكنولوجيا الغربية، ولم تتمكن الدولة من تطوير صناعات جديدة بسبب نقص التمويل والتكنولوجيا ووجود أولويات أخرى مثل إدارة الحروب والصراعات السياسية، فتراجعت الصادرات السودانية خصوصاً المنتجات الزراعية وفقدت مزايا اتفاقيات مثل اتفاقية لومي التي كانت تضمن لها أسعارًا أعلى في الأسواق الأمريكية والأوروبية. ولم تعد أمريكا تستورد سوى الصمغ العربي الذي تحتاجه، وتأثرت الاستثمارات الأجنبية سلباً، وخاصة الخليجية، التي كانت تشكل حوالي 80% من الاستثمارات بقيمة تتجاوز 22 مليار دولار بسبب غياب الحوكمة الرشيدة، ومقاطعة البنوك السعودية، مما صعب تحويل الرساميل والأرباح من وإلى بلدان المنشأ، ومن أهم العوامل الطاردة للاستثمارات الأجنبية، هو عدم استقرار سعر الصرف حيث تفقد العملة الوطنية قيمتها وهو ما يدفع المستثمرين إلى إنهاء استثماراتهم، وكذلك تراجعت صناعة السياحة في السودان وأغلقت بعض الفنادق العريقة مثل “المريديان” و”الهيلتون” أبوابها بسبب تراجع السياحة الغربية للسودان نتيجة للعزلة.
شهد السودان انقلابات عسكرية متكررة، كان آخرها انقلاب 25 أكتوبر 2021، وهو نسق متكرر منذ فجر الاستقلال لغياب المشروع الوطني وحضور مشروع السلطة كأولوية في أدبيات المؤسسة العسكرية، فاندلعت الحروب وتطاولت وأدت إلى تدهور البنية التحتية الاقتصادية، وارتفاع معدلات البطالة، وتفاقم الأمن الغذائي، وغابت مؤسسات الدولة وتم استبدالها بمؤسسات موازية، واتسمت السياسة الخارجية بالارتجال والميل نحو المحاور المتصارعة، مما أفقدها الاتزان الاستراتيجي والعزلة الدولية.
السيناريو المدني الأفضل
هناك ضرورة لارتباط السودان بمصالح دول الجوار والإقليم والمجتمع الدولي كمدخل مهم للاستقرار، ولا يمكن للسودان أن يحقق الاستقرار والتنمية بمعزل عن محيطه وعن الدعم الدولي، وهذا الارتباط يجب أن يكون مبنياً على المصالح المشتركة، ويعتبر السودان نقطة وصل حيوية بين شمال إفريقيا والقرن الإفريقي والشرق الأوسط وانعدام الاستقرار فيه ينعكس بصورة مباشرة على دول جواره عبر تدفقات اللاجئين، انتشار الأسلحة، والتأثيرات الاقتصادية السلبية وقضية الأمن والتحديات الأمنية في المنطقة هي قضية مشتركة، كذلك قضية التكامل الاقتصادي مع دول الجوار والاقليم، والسودان في حال توقف وانتهاء الحرب في حاجة للدعم الاقتصادي والانساني، واستئناف مبادرات إعفاء الديون وإعادة الإعمار وتدفق الخبرات الفنية الوطنية والصديقة وبناء القدرات المحلية، واستعادة شرعية المؤسسات عبر التوافق الوطني الصادق والمسئول، وهذه الأمور تضع على عاتق السودان العمل على إعادة بناء الثقة مع دول الجوار والمجتمع الدولي والتعاون في مبادرات الأمن الإقليمي واستئناف عمليات الاصلاح الاقتصادي الجذرية وتسخير الدبلوماسية لتحقيق مصالح السودانيين.
يقف السودان اليوم أمام مفترق طرق لا يحسد عليها، ومقبل على سيناريوهات تموضع الإرادة الوطنية ليست في مركزها، وهو أحد تداعيات الحرب التي ظلت القوى المدنية الديمقراطية تحذر منها، المجتمع الدولي وبالأخص الإدارة الأمريكية ترغب في حل سريع ينهي النزاع المسلح بأقصر الطرق ما يعني التسوية السياسية بين الطرفين المتقاتلين على غرار التسوية التي تمت في جنوب السودان او تلك التي تمت في ليبيا، وتشير والتجارب إلى أنها غالباً تنتج سلاماً هشا لن يدوم، وتفشل في معالجة الأسباب الجذرية للأزمة، في المقابل خيار السودان الموحد بقيادة مدنية يمثل السيناريو الوحيد القادر على تحقيق الاستقرار الدائم، التنمية المتوازنة والشاملة، وبناء دولة حديثة ديمقراطية تلبي تطلعات السودانيين، بإبعاد المؤسسة العسكرية عن العمل السياسي والاقتصادي، وتأسيس وبناء الجيش القومي الواحد تحت القيادة المدنية، وتشكيل أوسع جبهة مدنية مناهضة للحرب تؤسس لانتقال مدني ديمقراطي ودولة المواطنة المتساوية والتنمية المتوازنة، صحيح التحديات كبيرة، ولكن بوجود إرادة سياسية، ووحدة وطنية، ودعم دولي، يمكن للسودان العبور والانتقال لحكم مدني وديمقراطية مستدامة.
السودان تحت قيادة مدنية موحدة لن يحقق مصالح شعبه فقط وإنما سيضمن المصالح الاقليمية والدولية المشتركة على أساس المنفعة المتبادلة، واستقرار السودان هو ضرورة استراتيجية للمنطقة بأكملها فعوضاً عن استمراره كمصدر للتوتر والقلق يمكنه الانتقال لواقع جديد يعزز التنمية والسلام والأمن الإقليمي، وهذا ما يتطلب من الرباعية التي تضم الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات ومصر قد تسهم في بناء نموذج للارتباط والشراكة الاستراتيجية للسودان، فالمصالح المشتركة ستدفع نحو دعم الاستقرار في البلاد وإن اختلفت مقاربات الأطراف حول إنهاء الحرب والموقف من أطرافها، كما أن إستقرار السودان مهم لتطوير تكامل منطقة الكوميسا ويسهم إيجاباً في دعم جهود التكامل الإقليمي والتنمية في جميع أنحاء السوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا.
لكل ذلك فإن استقرار السودان واستعادة مسار الانتقال المدني الديمقراطي هو المدخل لهذه الفرص التعاونية، ويتوافق مع شرط الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي لتعزيز التعاون الاقتصادي بالانتقال الكامل الحقيقي لحكومة مدنية مستقرة وديمقراطية تلتزم بحماية حقوق الإنسان والاستقرار، ودون الاستجابة لهذا فإن آفاق التعاون سيكون محدود وستركز على الجهود على المساعدات الإنسانية وإدارة الأزمات … لذلك فهذا هو المسار والتوجه الصحيح في مفترض الطرق الحالية بالتوجه صوب سودان مدني ديمقراطي كخيار دائم لوقف الحروب وتحقيق سلام شامل دائم يضمن الاستقرار للسودان و جيرانه ومحيطه الاقليمي وكل المجتمع الدولي.
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..