وجع رأس

وجع رأس
بقلم: الدكتور نائِل اليعقوبابي
*(طوبى للذين ما إن يسند الواحدُ منهم
رأسه إلى وسادة، أو حتى إلى حجر.. حتى تظنّه
قَدْ مات..).
-….-

‏ .. المواطن السوداني، واقصد الذي بقي في رأسه بعض العقل، لان ما قد مر على رأسه خلال ربع قرن، كفيل بأن يذهب بالرأس والعقل معاً.. وببعض هذا العقل الذي مازال يتحرك في الرأس قد يفكر أحياناً وهو يتابع مسلسلاً تاريخياً أو يقرأ في قصاصة من ورق، عن أمجاد أمته الغابرة التي لم تكن للشمس أن تغيب عن دولته. ثم بعدها يشتم أمريكا والاستعمار والامبريالية والشيوعية والمأسونية وداعش والكيزان وتنظيم القاعدة والحادي عشر من سبتمبر واتفاقية نيفاشا المشؤومة، ثم ينتقل إلى محطة الروتانا كليب ليعزي نفسه بكوكب الشرق المعاصرة هيفاء وهبي وهي تصدح بالواوا* فيفكر أيضاً ما دام فيه فضلة من عقل بأن هذه المخلوقة المتقنة الصنع وبما تملكه من عزٍ وجاهٍ وجمالٍ ومالٍ وسلطان فإنها تضاهي البشير والترابي ونافع وغازي صلاح الدين مجتمعين بل وتتفوق عليهم جميعاً مع ذلك فهي تعاني وتشتكي من الواوا

مثلها مثل هذا المواطن السوداني وإن كان كل واحد منا واواه على قده و كلنا في الهم واوا.‏
لكن هذا المواطن الممكونُ وهو قاعد على بمَّبر مهتّكْ أمام ست شاي تشتكي أوجاع الحياة يحل الكلمات المتقاطعة في إحدى الجرائد قد يتورط في البحث عن كلمة مؤلفة من سبعة أحرف لدولة خرجت من الحرب العالمية الثانية مستسلمة بعد ان قصفتها أمريكا بالقنبلة الذرية، وهي الآن تغزو الأسواق العالمية ببضائعها مع إن أسعارها ليست رخيصة وهي من الدول الصناعية الكبرى في العالم، وان أفراد شعبها يمتازون بالتفاني بالعمل الدؤوب الجاد وان مراقبي الدوام يجرون العمال جرا من وراء آلاتهم حين انتهاء الدوام وإنهم لا يضيعون دقيقة من العمل بطق الحنك والشمارات أو شرب الجبنة أو الشاي.‏
ويسرح هذا الذي يحل الكلمات المتقاطعة فلديه أربعة أحرف راكبة من أصل سبعة، ثم يتوصل أخيراً إلى كلمة اليابان.. وهنا يضع هذا المواطن ما تبقى من عقله جانباً ويفكر بعقل غيره: فيتساءل:‏
– كيف وصل اليابان إلى ما وصل إليه، ووطنه الكبير الممتد من الماء إلى الصحراء مازال يستورد حتى ألعاب الأطفال والعجلات من الصين، وزبدة اللورباك من الدانمارك.. وسرح بخياله إلى جاره صاحب البقالة عوض برجُم وكيف يعيل من هذه الدكان أسرة كبيرة ومنها صرف على تعليم أولاده وبناته. ومنها قد جهز بناته الثلاث حين تزوجن.. ومن هذه الدكان استطاع توفير المال لأداء فريضة الحج هو وزوجته ام الكُعوك. وكاد هذا المواطن الذي استعار عقل غيره ليفكر به أن يصاب بصدمة المعرفة حين تذكر المعامل والمصانع والمؤسسات التي تضم أعداداً لا حصر لها من العمال والفنيين والإداريين وتحقق انتصارات مجزية بالخسائر المادية الفادحة وحين قارنها بأرباح دكان عوض برجُّم خاف على العقل المستعار، فأعاده إلى أصحابه، وأخذ يفكر بما كان قد بقي له من عقل فتذكر الأعداد الكبيرة من الذين يقبضون رواتبهم وهم عاطلون عن العمل من المحسوبين على أصحاب المقامات الكيزانية وحركتهم الإسلاموية. ناهيك عن الفرقة النقابية والفرقة المهنية وسواهم من المفرغين عدا عن الذين يشتغلون ببعضهم أكثر مما يشتغلون بالإنتاج، ثم تذكر أيضاً أيام العطل الرسمية وغير الرسمية التي يتوقف فيها الإنتاج وتذكر أيضاً المسيرات المختلفة، المناسبات و الأسماء، مسيرات النصر، مسيرات التأييد… مسيرات الشجب والاستنكار…. مسيرات الوفاء… مسيرات الغضب … مسيرات الدعم….‏
وقبل أن يتوصل ذاك المواطن إلى معرفة سبب نهوض اليابان وتخلف أمته السودانية، أحس أن ما تبقى من عقله قد طقَّ وطرشقْ.. فشعر بسعادة لا توصف لأنه وإلى الأبد قد استراح من التفكير ووجع الرأس.‏
[email][email protected][/email] *الواوا: الألم الناشئ عن حرقة نار.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..