مقالات وآراء

المسارات الناجعة لثورة 19 ديسمبر

معتز إبراهيم صالح
-1-
أسباب الثورات تتشابه ولكنها تختلف في الطرق والمسارات التي تسلكها ، ونتحدث عن الطرق والمسارات  السليمة للثورات السابقة ، وسنسبر غور ثورتي اكتوبر وابريل ونبين القاسم المشترك بينهما وأسباب نجاحهما  في إسقاط  الانظمة الشمولية لإتخاذهما دليل ومرشد على قرار (جددناك يا أكتوبر في أبريل )  ، ونقصد بنجاحهما في تغيير نظام غير ديمقراطي ، وليست في تأسيس دولة ناجحة ، فقد فشلت ثورتي أكتوبر وأبريل في اقامة دولة ديمقراطية مستقرة ومزدهرة ، وهذا  ما سوف تنجح فيه ثورة 19 ديسمبر الحالية ، وهذا ما نبشر به ،ونراهن عليه بان الثورة الحالية ثورة واعية وشاملة ثورة تتقاطع معرفياً مع كل ما هو قديم وبالي   ،وكل الدلائل تشير علي  ان الثورة الحالية ستعيد هيكلة الدولة علي أسس جديدة تؤدي للاستقرار والازدهار وبناء دولة المواطنة التي يجني الجميع ثمارها .
-2-
نمتلك من التجارب الغنية التي يمكن ان نستند عليها من دون النظر في كتاب اخر، نقرأ من دفتر ثورتي  اكتوبر وابريل اهم العناصر التي ادت لنجاحهما ، ومن اهم العوامل الحاسمة انحياز القوات النظامية والدور البارز للنقابات المهنية، وفي مقال سابق بعنوان (انحياز القوات النظامية للثورة بين الخوف والريبة ) بينا فيه ان انحياز القوات النظامية للثوار مسالة وقت ،رغم كل التشوهات التي حاقت بها ، وبفضل القيادات الوسيطة سوف تنحاز القوات النظامية   اذا تصاعدت التظاهرات ووصلت الي المرحلة الحرجة  كما حدث في ثورتي اكتوبر وابريل ، وفي هذا المقال سوف نبين الدور الكبير للنقابات المهنية في الثورة ،  حيث انطلقت شرارة ثورة اكتوبر 1964من جامعة الخرطوم ، وتصاعدت الاحداث بعد سقوط القرشي شهيد ، وامسكت النقابات المهنية بزمام المبادرة وكان له قصب  السبق في انجاح الثورة ، وكذلك ثورة ابريل 1985 انطلقت شرارتها من العاصمة ، وتدخلت النقابات المهنية ساحة الاضراب العام ، واتسع حركة الاضراب ليشمل كل انحاء السودان وسقط نظام مايو ، في ثورتي اكتوبر وابريل كانت النقابات تمثل عامل حاسم ولعبت دور مقدر في انجاح الثورة ،  فقد كانت النقابات قوية ومسيطرة وفعالة تستجيب عضويتها لتنفيذ العصيان المدني الشامل والاضراب السياسي .

-3-
نظام الانقاذ منذ قدومه مسكون بهاجس ثورة اكتوبر وابريل ، وحاول ان يحطم كل الاعمدة التي قامت عليها الثورة ، فدمر الخدمة المدنية واستبدل الكفاءة بالولاء ، وسيطر علي كل النقابات المهنية ، واضعف دورها حتي يكون في مأمن من قيام ثورة تطيح به ، ولكن ظل اهم عامل خارج سيطرته ، ضمير وارادة وعبقرية الانسان السوداني ورفضه الفطري للظلم ،وعشقه للحرية ، وجينات الكرامة والبسالة والشموخ المتجذرة فيه ظلت بعيدة المنال، وعصية علي النظام .

-4-
ثورة 19 ديسمبر انطلقت خلاف سابقتيها من الاطراف الي المركز ، انطلقت  من مدينة عطبرة ،القضارف  ،بورسودان ، ثم الخرطوم ، والتقط القفاز تجمع المهنيين السودانيين الذي  يعتبر جسم موازي للنقابات التي سيطرت عليها الحكومة ، وكان قد اعلن عن  موكب  قبل انطلاق الثورة لتسليم مذكرة تطالب  بزيادة الاجور ، وتماشياً مع تصاعد الاحداث ، غير من مطالبه من زيادة الاجور الي رحيل النظام ، وحاز علي ثقة السودانيين علي الرغم من حداثة تكوينه ،  وسير مواكب في مدينة الخرطوم ، وأمدرمان ، وبحري ، كانت حاشدة وناجحة .
-5-
من خلال ما سبق نلاحظ ان وجود نقابات مهنية فعالة عامل مهم في انجاح الثورة ، لذلك تبني  تجمع المهنيين السودانيين  تنظيم وقيادة التظاهرات بالتنسيق مع قوي الاجماع ونداء السودان ،وبذلوا مجهودات عظيمة وتحركات كثيفة ، جعلت  خط الثورة في حالة تصاعد مستمر ، وسيصل الي المنطقة الحرجة التي تجبر القوات النظامية للانحياز للشعب ، و علي الرغم من المجهود المبذول والتكتيك المنظم ، ولكن الاصرار علي مركزية التظاهرات في العاصمة المثلثة ، واعادة سناريوهات ابريل واكتوبر حذو الحافر بالحافر ، اضعف من التظاهرات في المدن المختلفة ، ولم تعطي الزخم الاعلامي المستحق ، علي الرغم من ان النتائج علي ارض الواقع ،تظهر علو كعب مدن مثل عطبرة ، والقضارف ، وبورسودان  ، حيث حازت التظاهرات فيها  علي  نسبة عالية من المشاركة الفاعلة من جميع المواطنين ، بل استطاعت هذه المدن بعد تقديم التضحيات والشهداء بتحييد القوات المسلحة ، واجبرت قوات الشرطة والقوات الامنية علي عدم استخدام القوة المفرطة ، واصبحت مهيأة  تماما لخطوات اكبر تودي الي توقف الحركة ، لماذا لا تكون هذه المدن راس الرمح في الثورة الحالية تتقدم خطوات ثم تتبعها الخرطوم ، وذلك من
شانه تخفيف الترسانة العسكرية التي تتمركز في العاصمة ، وتقليل الضغط عليها لتكون الضربة القادمة موجعة وقاضية تقصم ظهر النظام .
-6-
اهتمام النظام منصب علي وسط السودان او ما يعرف بمثلث حمدي ، وتضائل هذا الاهتمام لينحصر في الخرطوم ، مما ادي الي حدوث هجرات مكثفة في العقود الاخيرة من الريف والمدن للعاصمة ، زادت علي اثرها الكثافة السكانية بصورة مطردة ، قابلتها زيادة مضاعفة في القبضة الامنية ، جعلت من الخرطوم عاصمة معقدة ومتشابكة ، تحيط بها القوات النظامية من كل جانب ، ومع بداية تظاهرات ديسمبر تحولت الي ثكنة عسكرية ، وعلي الرغم من ذلك استطاع تجمع المهنيين السودانيين  زلزلة عرش النظام بتنوع التظاهرات في اماكن مختلفة من العاصمة ، وموكب 17 يناير الذي دعي له تجمع المهنيين السودانيين  في كل مدن السودان ، يعتبر خطوة ذكية للأمام ، واضافة نوعية للحراك ،بل يعتبر بمثابة ازالة المتاريس من امام الامواج الهادرة للثورة ، فمياه الثورة نابعة من المدن في تجاه مصب التغيير في الخرطوم ، فلندعها تنساب بصورة طبيعة لتروي كل رقعة من ربوع بلدي ، وتنصهر فيها كل  المدن السودانية في بوتقة واحدة ، وتلتئم اللحمة الوطنية ، وتنزوي العنصرية والجهوية التي اقعدت بنا سنين عددا ، الثورة  التي ننشدها ، ثورة واعية متجذرة في القري والمدن ، والبوادي والحضر ، ثورة بدايتها الحقيقة اسقاط النظام ، ثورة مستمرة ودائمة لاستئصال كل الامراض المزمنة التي انهكت جسد الوطن ، وبناء دولة المواطنة  التي نتمناها ونستحقها .

معتز إبراهيم صالح <[email protected]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..