قصة قصييرة.. الأحلام تتلاشى

(يااه ثمة غبار كثيف عالق على سطح الطاولة). قال في نفسه وهو يخطو نحو الطاولة القابعة أسفل النافذة.
هي ليست مجرد طاولة; هي بالأحرى كانت مكتبه الصغير; وما تلك الاوراق المبعثرة هنا وهناك; إلا قصاصات من قصائده القديمة وبعض الخواطر التي لم تخطر على باله مرة أخرى.
رفع إحدى الاوراق التي كانت ملقاه على أرضية الغرفة المغبرة; قرأ عليها التالي..
– لم يكن بيدي; قلبي الذي ضل في متاهات المدن الكبيرة وأزقتها الضيقة قد أدمن الترحال. لا شواطئ تستقبل السفن المبحرة بلا شراع. هي كورقة القى بها عاشقان في الطرف الآخر من الشط. لم يكتبا عليها شيئا مهما تركاها هكذا تبحر بلا هدف. المرافئ التي تنتظر وصولها على أحر من الجمر تعرف كيف تفرغ حمولتها الثقيلة.
قلب الورقة على الجانب الآخر ثمة رسم لقلب لا يخترقه السهم الدامي; إنما يقطر الدم من قلم صدئ سنته المدببة مكسورة ومعلقة إلي عنقه بخيط من الحبر الباهت.
كانت تلك آخر شخبطاته بالقلم قبل أن يغلق باب شقته على هزيمته الكبرى; ويحمل حقائبه; ويرحل دونما يحكم غلق قفل قلبه جيدا; و الذي ظلت ضربات ضلفتيه ترن في أذنه باستمرار. قلبه كان مثل بنات أورشليم لا بواكي لهن كما قال السيد المسيح; فإن كانوا قد فعلوا ذلك بغصن قلبه الاخضر; فماذا هم فاعلون بعود جسده اليابس؟
لم يبق من تلك الأيام; إلا طيف رهيف شفاف مخادع. كبخار بدأ يتسرب من قدر يغلي والجوع يكثف الرؤيا. يراه كخط مستقيم من الغبار العالق بشعاع مصباح معلق على ناصية الشارع. الشارع نفسه ما عاد يذكره; فقد تغير كثيرا. ثمة خيالات تدور في رأسه عن ذكرياته القديمة بذات الشارع. نصبة تذكارية لأحد الباعة الجائلين ينادي على بضاعته الرخيصة. صبية على أثمالهم يجلسون بلا حراك. قطة تموء من الجوع في هياكل المارة; ولا أحد يتصدق عليها برغيف الخبز اليابس; وعسكري مرور يطارد لصا و يهذيء بكلمات بذيئة دون اكتراث للمارة. يقول أن اللص سرق الشارع العام. وهو وهي يتسعكان وسط كل هذا الزخم; يقشران الترمس; وينفخان نار الشوق في عيونهما المغرمتين دون اكتراث للشرر المتطاير بالجو.
في المدينة التي رجع منها بعد سفره الطويل. لا توجد مثل هذه المناظر الهمجية. لم يكن يسمع مثل تلك الترهات. هناك الناس يتحركون بنظام كالنمل; صحيح أنهم لا يثرثرون كثيرا ولكنهم منشغلون غير مكترثين. كل واحد يثرثر مع فكره و يكترث لما يشغل ذهنه. لا تحايا و لا سلام ولا عتاب; ولا حتى المشادات الصباحية التي كانت توقظه من النوم بين جاره وزوجته; و التي كان ينام ويصح عليها كل يوم. تلك التي كان يسمعها غصبا عنه وهي تنبعث كرائحة كريهة من شقة جاره. (يجب أن تأتي بالمال مثل باقي الرجال. هذه الملاليم التي ترميها كل يوم على وجهي ما عادت تكفي) أو
تلك التي كان يضطر ليلصق أذنه بالجدار; و يكتم أنفاسه ليلتقط جانبا من الحكمة الرجالية.
(يا ولية استهدي بالله. ماذا أفعل تريدين أن أصبح لصا.
لا. لن أمد يدي لقرش واحد حرام).
هي الاسباب نفسها إذن التي دفعته للرحيل. تبدلت ملامح الوجوه و الازمان ; و لكن الأسباب ظلت كما هي باقية في خياله. نفخ الغبار عن سطح الطاولة; حمل باقي عمره; وخرج من الغرفة. وهو ينزل الدرج سمع ضربات ضلفتي الباب في قلبه; وخيل إليه أنه سمع جاره وقد خرج صوته عن طوره ( يا ولية حرام عليك ألف مرة أقول لك لن أمد يدي لقرش واحد حرام). قفل أذنيه; وركض كي لا يسمع كلمة تبغض الحلال.

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..