السودان… في الصيف ضيعت اللبن

بين "الزول" وبين الوقت عداء مستحكم. ويمتد هذا العداء ليصل الى مستوى حالة اجتماعية عامة، التأخير فيها عن الموعد مهما كان نوعه لا يتطلب التفسير ولا يستدعي الاعتذار.
يغطي على هذا العداء للوقت ويخفف من وطأته درجة عالية من العذوبة والسماحة والطيبة والكرم والعشرية تتمتع بها الشخصية السودانية العامة و"الزول" ذاته.
البعض يفسر هذه الحالة بسخونة الطقس الذي يؤدي الى الكسل والاسترخاء، والبعض يعزوها الى عمق علاقات التواصل والتراحم في المجتمع السوداني، وهي حقيقة اجتماعية جميلة، ولكنها تتحول الى السلبية حين يفضل "الزول" القيام بالواجب الاجتماعي على حساب الالتزام بالموعد وبرنامج العمل.
والبعض الثالث يفسرها بان المجتمع السوداني هو في أصله، وبنسبة عالية في واقعه الحالي، مجتمع "رعاة" والراعي لا علاقة له بالوقت، ساعته هي شروق الشمس وغروبها. والرابع يفسرها بالانتشار الواسع للصوفية بطرقها المتعددة، وما يتطلبه ذلك من وقت للقيام بشعائرها واذكارها.
بالتأكيد فان لهذه الحالة انعكاسها على الاوضاع العامة في السودان لجهة وتائر نموه وتطوره، الى جانب عوامل كثيرة اخرى اهمها الاطماع الخارجية في السودان جغرافية وبشرية وثروات.
السياسة لا تشذ عن القاعدة. والاستفتاء حول وضع جنوب السودان المثل الحالي والحامي على ذلك.
فموعد الاستفتاء معروف ومحدد باليوم منذ لحظة توقيع اتفاقية نيفاشا سنة 2005. ومعروف ايضا ان هناك العديد من القضايا ظلت بحاجة الى اتفاق وحل بين طرفي الاتفاقية قبل الوصول الى موعد الاستفتاء، من نوع ترسيم الحدود ووضع منطقة أبيي وحصص كل طرف من النفط، وغيرها. ومع ذلك فان كل هذه الامور بدأت تظهر في الشهور الاخيرة دون اي تقدم فيها وكأنها امور طارئة او مفاجئة، وبشكل متفجر ومهدد، بما يؤكد ان الطرفين لم يعملا على حلها وتناسياها، كل من خلفيته الخاصة، طوال تلك السنين.
واذا كان الاعتقاد ان الحركة الشعبية كانت ومنذ البداية تسعى نحو الانفصال وتخطط له، مدعومة بقوى خارجية، فما هي حقيقة موقف الحزب الوطني الحاكم .هل كان الى حد ما وباختلاف المنطلقات قريبا من موقف الحركة الشعبية وفاقدا الامل بالقدرة على الحفاظ على الوحدة.
ام انه كان فعلا مؤمنا بالوحدة وساعيا للحفاظ عليها، وعاملا لأجلها على قاعدة انه "ام الولد"، وهذا ما نعتقد به ونرجحه.
لكن ايا كانت حقيفة قناعات الحزب الوطني الحاكم فانه لم يقم بعمل ما يكفي وما يلزم لجعل خيار الوحدة خيارا جاذبا. فهو لم يراكم خلال سنوات ما بعد نيفاشا انجازات ومشاريع تمس تحسين الظروف المعيشية للمواطن العادي وبالذات الجنوبي. وهو لم يبد متحمسا ومبادرا في طرح وتبني حلول للقضايا الخلافية في وقت مبكر حتى لو لم يجد التجاوب المطلوب من الطرف الآخر وحلفائه. وهو لم يقم بالعمل المطلوب في اوساط الاعداد الكبيرة من الجنوبيين الذين يعيشون في الشمال منذ سنوات في تجمعات عشوائية تفتقر لمعظم مقومات الحياة الكريمة لدمجهم في المجتمع السوداني الموحد والتعامل معهم كمواطنين متساوين ولم يحسن من اوضاعهم المعيشية ولا من ظروف عملهم ومناحي استخدامهم . الامر الذي سهل كثيراً للحركة الشعبية استقطابهم، وهو ما يفسر استجابة أعداد كبيرة منهم لنداء الحركة بالرحيل الى الجنوب قبل يوم الاستفتاء.
ان كل حركة الحزب الوطني الواسعة والمحمومة وكل القضايا المحقة والترتيبات التي يثيرها وينادي بضرورة انجازها، او الاتفاق على معالجتها قبل الاستفتاء، تأتي متأخرة جدا. بل ان طرحها بهذا الوقت المتأخر يبدو كنوع من التعجيز او محاولة تأخير الاستفتاء الى موعد آخر عل وعسى.
ان تأجيل موعد الاستفتاء لفترة زمنية مناسبة يمكن الاستفادة منها في احداث معطيات جديدة تؤثر في نتيجته يبدو أمراً يستحيل الاتفاق عليه. اما تأجيلها لبضعة اسابيع كما ألمحت اميركا باستعدادها للموافقة عليه، فلا قيمة له ولن يغير في الأمر شيئا.
وبدون التلطي وراء العامل الخارجي لتبرير كل قصور او فشل او حتى كسل، فانه من العمى السياسي عدم رؤية ذلك العامل الخارجي، بالتحديد اميركا ومن يتوافق معها، وكبر حجمه وقوة تـأثيره وعظم نفوذه على كل مجريات الامور الاساسية وصولا الى التفاصيل. وكأنه اضحى هو العامل المقرر، بما يضع علامات استفهام حول دور العامل الذاتي الوطني كعامل مقرر. ويضع "شعارالقرار الوطني المستقل" بفهمه السائد في مجال البحث والدراسة. وهذا الامر لا يقتصر على السودان وحده ولا على الموضوع مجال البحث حصرا.
ان نتيجة الاستفتاء، كما تشير معظم الدلائل ستكون الانفصال. وكأن لعنة الانقسام والتشظي التي تحلق في سماوات البلاد العربية وتجوس في تضاريسها وحدودها ومجتمعاتها قد حطت الآن في السودان كبرى البلاد العربية والافريقية. وهي مصيبة كبيرة تضاف الى مصائب الامة العربية وليس على السودان وحده.
ان خطر عودة الاقتتال بين الشمال والجنوب، يبدو احتمالا مخيفا، بالذات اذا تم فـرض الانفصال بدون ترتيبات ولو شكلية هدفها تدوير الزوايا وحفظ ماء الوجه.
اما مخاطر الانفصال فهي كبيرة جدا تبدأ بالسودان نفسه والتي لن تقتصر على الاشكالات الكثيرة المتوقعة بين الشمال والكيان الجديد في الجنوب بل يمكن ان تمتد الى مناطق السودان الاخرى واولها دارفور.ثم ان الانفصال سوف يوجد قاعدة اضافية متقدمة لقوى الغرب عموما لتمد سيطرتها واستثماراتها وتدخلها الى الدول الافريقية المجاورة. اما اسرائيل فان قيام كيان سياسي مستقل في جنوب السودان يجاهر قادته المتوقعون مقدما بعدم عدائهم لها واستعدادهم للاعتراف بها كعربون مقدم يشكل لهاهدية من السماء. ان وجود هذا الكيان يعطيها اضافة الى مكاسب عديدة اخرى، امكانية الالتفاف على "مصر" بالذات وتهديدها في مياه النيل مباشرة وعن طريق التعاون مع دول المنبع الاخرى التي لها خلافات معها حول نفس الموضوع.
ان " مصر" للأسف الشديد تدفع بذلك ثمن سياسة التخلي عن السودان والتراخي وربما الابتعاد عن مجالها الحيوي في افريقيا وبالذات مع دول منبع النيل لتتركها أرضاً فضاء تلعب فيها اسرائيل دون منافس او معيق. وهي جزء من السياسة المصرية العامة المنغلقة على الذات والمضيعة لدورها الحيوي والكبير الأهمية في عموم المنطقة.
هل هناك ما يمكن عمله لوقف الانفصال ؟ ام اننا "في الصيف ضيعنا اللبن"!!

صادق الشافعي
الايام الفلسطينية

تعليق واحد

  1. حلو عننا يا عرب اقطعوا وشكم ابعدوا عننا سيبونا فى حالنا انصراف خلف دور انقلعوا روحوا بكل لهجاتكم مع السلامه

  2. الزول السوداني أمين ، صافي النية ، مسامح ، كريم ، لا يعرف الخسة ولا يعرف الغدر ، لا يعرف الرياء ولا يعرف التملق الخ آخر الصفات الجميلة التي يتمتع بها كل سوادان دول تكلف.

    للذين يشنون هذه الحملة ضد السودانيين من أجل التقرب الي المسؤلين والكسب الوظيفي.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..