الإنقاذيون ما بين ( التمكين ) و ( التطنيش ) د. عمر بادي

محور اللقيا

الإنقاذيون ما بين ( التمكين ) و ( التطنيش )

د. عمر بادي
[email][email protected][/email]

من أدبيات الخطب التجاهلية قول السيد رئيس الجمهورية في إحدى خطبه أنهم يعملون بالمثل العامي القائل : ( الكلاب تنبح و الجمل ماشي ) ! حسب علمي بالمثل فإنه يأتي بالكلب مفردا لكن السيد رئيس الجمهورية اراده جمعا من الكلاب , فيهم الصحفيون و ممثلو أحزاب المعارضة و عامة المعارضين قولا و فعلا .. كلهم ينبحون بينما جمل الإنقاذيين ماشٍ و لا يعيرهم في مشيه أي إنتباه ! هذه أيم الله ليست بمزحة , و إنما سياسة راسخة عند الإنقاذيين مثلها مثل سياسة التمكين , و دعوني أسميها سياسة ( التطنيش ) !
كل قضايا الفساد التي تم طرحها منذ النصف الأول من التسعينات , و التي كان طرحها شفاهة آنذاك نسبة للقبضة الأمنية القوية على وسائل الإعلام خاصة الصحافة , و لكنها إنتشرت بين الناس إنتشار النار في الهشيم , و خير أمثلة لقضايا الفساد المتناقلة تلك , أورد الآتي : أموال طريق الإنقاذ الغربي التي تجمعت من تنازل المواطنين في غرب السودان عن نصيبهم من كوتات السكر التموينية , ثم الرسوم العدة التي أخذت من المواطنين لتجميل العاصمة القومية , ثم التصديقات الإحتكارية لتوزيع السكر و الأسمنت و دقيق المخابز و سجاير البرنجي , ثم خصخصة دار الهاتف في سوداتيل و إحتكارها للهاتف الثابت و النقال , ثم خصخصة الخطوط الجوية السودانية و إختفاء خط هيثرو , ثم خصخصة أو تأجير خط سكة حديد غرب السودان , ثم التصرف في البنية التحتية لمشروع الجزيرة كقضبان السكة حديد الداخلية التي كانت تستخدم في نقل بالات القطن و لكنها ذهبت كلها إلى أفران صهر الحديد في مصنع جياد , و أيضا سرايات مفتشي المشروع و ما بها من أثاثات و عربات , ثم نأتي لهيئة النقل الميكانيكي و ما بها من ماكينات عدة في الورش , ثم اليخت الرئاسي , ثم الفلل الرئاسية و لمن آلت ملكيتها , و القائمة تطول ..
أما بعد أن تم السماح بهامش للحريات في الصحف بعد نضالات عدة , صار أمر قضايا الفساد مؤكدا من روايات شهود العيان , و نشط الصحفيون في بسط قضايا الفساد و بالدليل القاطع الذي لا يخفى على عين و هو مظاهر الثراء التي تبدت في إمتلاك القصور و المزارع و الشركات فكانت الروايات عن ثراء إخوة السيد رئيس الجمهورية و ثراء زوجته الثانية و خاله و أقربائه في صراصر , و كذا كان ثراء القياديين الكبار و الوزراء و الدستوريين , ثم كانت قضية الفساد في سوق المواسير و قضية الفساد في شركة القطن و قضية فساد بعض المستشارين و قضية تعويضات العائدين من الكويت و قضايا الفساد في الأراضي و في التعويضات كتعويضات متضرري المناصير و متضرري الأراضي المنزوعة في الخرطوم و قضية إستيراد المواد فاقدة الصلاحية , و قضايا أخرى كثيرة لا أستطيع حصرها .. كلها قد جعلت من السودان دولة في ذيل الدول بمقياس الشفافية و النزاهة , و جعلته في رأس الدول الفاسدة , بحكم التقارير العالمية .هكذا صار الكتاب الصحفيون يكتبون و يكشفون مواطن الفساد و يجأرون و (ينبحون ) , بينما جمل الإنقاذيين ينؤ بما حمل و يمشي الهوينى غير عابيء بنباح الكلاب الصحفية من حوله !
لقد أتى نظام الإنقاذ منذ بدايته بسياسة التمكين , و لكي يجد لها شواغر في الوظائف القيادية , أتبعها بالإحالات للصالح العام لغير الموالين له من ( فلول ) الأحزاب المنحلة أو من المنتقدين له , و بذلك خلا الجو لطيور الإنقاذ المتمكنين فبيضوا و أصفروا و نقروا ما شاؤوا ان ينقروا , و من خلال كوة هذه المشيئة دخل الفساد و ضرب بأطنابه و لم يجد له رادعا لأنه فساد أصحاب الحظوة و المقربين , و كما قالوا بأنفسهم فإن المحاسبة إن تمت تكون داخلية و ( مستورة ) بفقه السترة حتى لا يشمت فيهم الأعداء , و يكون العقاب عادة بالنقل من موقع قيادي إلى موقع قيادي آخر ! لكن عندما تفشى الفساد و ظهر في البر و البحر , و تعاقبت المذكرات من أعضاء المؤتمر الوطني و من الحادبين على مصلحته تطالب بالإصلاحات , كان لا بد للسيد رئيس الجمهورية أن يعترف بوجود الفساد و يكوّن له مفوضية لمحاربته برئاسة السيد ابي قناية .
كل الذي قلته عن الفساد حري أن يتناوله السيد أبو قناية و يشرع مفوضيته في البحث و الإستقصاء و التحقيق حتى تتكشف له الحقائق , و أن لا يمعن في الإنتظار حتى يأتيه الشاكون بالأدلة , و هل يترك اللص المتمرس دليلا على إدانته ؟ نحن نتمنى أن يكون للمفوضية دور في كشف الفساد و محاسبة المفسدين , و أن يكون تحركها ذاتيا في تقصي قضايا الفساد متى ظهر رأس جبله الجليدي من تحت ماء الأقاويل .
إن سياسة ( التطنيش ) التي كان معمولا بها تجاه ما تكتبه الصحف عن قضايا الفساد قد ( فلت ) عقالها فانقلبت إلى ( تنكيل ) و ( تعذيب ) و ( تقفيل ) للكتاب الصحفيين و للصحف , بعد أن بلغ السيل زبى رئاسة الجمهورية و وصل إلى المناطق المحظورة من الإقتراب و التصوير ! على ذلك تواردت أخبار إعتقال البروفيسير محمد زين العابدين بعد نشر مقالته التي إنتقد فيها عيانا بيانا و لأول مرة السيد رئيس الجمهورية في ثرائه و حيازته على شريط من أرض كافوري كان معدا لإقامة المنشآت الخدمية العامة عليه , فإذا به يقيم فيه مسجد و مجمع النور بإسم العارف بالله حسن أحمد البشير و يقيم فيه أبراج حوش بانقا الجديد ! و عملا بنصح ولاة أمر المسلمين أضاف البروفيسير أن من يحمل إسما كإسم أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب عليه أن يقتدي به و يسعى أن يكون صنوا له في العدل و في العمل على راحة الناس و في الإستماع لآرائهم ثم تفنيدها أو العمل بها و في كرهه لإستغلال النفوذ و في وضعه لمفهوم حقوق الإنسان و في بساطته التي صارت مضربا للأمثال !
هكذا عادت سياسة القمع و الإعتقالات و إغلاق الصحف , و كل هذا كان متوقعا في ظل القوانين المقيدة للحريات , و هكذا ظهرت الحملات التضامنية مع البروفيسير محمد زين العابدين في المواقع الإسفيرية و في مهاجر السودانيين في أقطار الأرض , و من أهله الحلاوين و من كل الشرفاء الذين يؤمنون بحرية التعبير , و من ذلك كان اللقاء التضامني الذي أقامته رابطة أبناء الحلاوين في الرياض و شاركت فيه معظم الكيانات السياسية السودانية , و تنادوا بإيصال أصواتهم إلى أجهزة الإعلام العالمية و تعرية النظام الإنقاذي الذي تجتهد أجهزة إعلامه في تجميل وجهه و جعله ديموقراطيا و كافلا لكل الحريات , و تنادوا بخروج المسيرات السلمية و الإعتصامات داخل الخرطوم .
أخيرا أكرر و أقول : إن الحل لكل مشاكل السودان السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية يكون في العودة إلى مكون السودان القديم و هو التعايش السلمي بين العروبة و الأفريقانية و التمازج بينهما في سبيل تنمية الموارد و العيش سويا دون إكراه أو تعالٍ أو عنصرية . قبل ألف عام كانت في السودان ثلاث ممالك افريقية في قمة التحضر , و طيلة ألف عام توافد المهاجرون العرب إلى الأراضي السودانية ناشرين رسالتهم الإسلامية و متمسكين بأنبل القيم , فكان الإحترام المتبادل هو ديدن التعامل بين العنصرين العربي و الأفريقاني . إن العودة إلى المكون السوداني القديم تتطلب تغييرا جذريا في المفاهيم و في الرؤى المستحدثة و في الوجوه الكالحة التي ملها الناس !

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..