اهم يغتالون ذاكرتي..انا ملكال

طفلة لم تبلغ السادسة من العمر بعد، رفعتْ وجهها الحزين وببراءة سألت والدها “أبي, على من يطلقون النار فى المدينة ليلا ونهارا؟ ” سألتْ سؤالها هذا والحزن يكسو وجهها الصغير ودموع حيرى ترقرق في مقلتيها. تململ الأب في مجلسه. تحاشى النظر اليها، ورحل ببصره صوب الافق الاخضر. لقد أخذه سؤالها على حين غِرة. حاول الهروب ولكن نظراتها المتوسلة لاحقته بعزم كما يلاحق الليل النهار.

ضمها الى صدره وحاول الهروب بمعسول الكلام، إذ قال لها مطمئنا “لا تبالين ياصغيرتي. إنهم يطلقون النار لأنهم أناس أصابهم الجنون وفقدوا رُشدهم بحيث انه لم يعُد في مقدورهم فرز الامور من بعضها البعض. يآلهم من قوم إختلط في دنياهم الحابل بالنابل، وتشابه عليهم البقر، وأصابهم البكم، وأعمى الجهل بصرهم، وأصبحوا لا يفرقون بين الليل النهار”.

لكن نبضات قلبه المرتبكة كانت تنبئ بغير ما جاء على لسانه. تأملتْ أسارير وجهه النحيل، وفي نبرة مفعمة بحكمة لا يتعلمها المرء الا من مدرسة الحياة، قالتْ والشك لا يخالجها : “أبي، إن الذين يطلقون النار ليسوا مجانين وليس صحيحا إنهم لا يفرزون هذا من ذاك، إذ شاهدتهم يفرزون الأطفال وذويهم من الآخرين ومن بعدها يصرخ الاطفال واُمهاتهم ثم يسقطون جمعياً على الارض وينامون بدون غطاء وبدون حراك ومن ثم يقوم هولاء المسلحون بإطلاق الرصاص فى الهواء، ويضرمون النار فى المنازل قبل ان يفرون بالغنائم.” وأردفتْ بنبرة حاسمة ” أبي، إن هولاء الناس ليسوا مجانين، أليس كذلك!”

هرب الأب بنظره مرة اُخرى وحلّق فوق الاُفق البعيد, إلا إن نظره إرتد إليه كالصدى وولج في صدره كألم لا يمكن الغض عنه. وبينما كانت أنامله الطويلة تداعب ببطء شعرها الأجعد، وبينما ظل شاخصا بنظره نحو الاُفق، ململ ونمنم كمنْ يمشي في نومه، وقال لها بصوت خافت كدبيب النمل “كلا يابنتي، إن هولاء الناس ليسوا بمجاذيب بل انهم يدركون تماما ما يفعلون وما يريدون.”

أبرقتْ عيناها الصغيرتان وتلألأتا كمشكاة فيها شموع عيد ميلاد، وغمرت فرحة عارمة وجهها البرئ، وفي لحظة فرح نادرة في أتُون المصائب التي تجتاح المدينة منذ منتصف شهر ديسمبر الماضي، قفزتْ في الهواء فرحة وكأنها قد ربحت رهانا لتقول “ألم …” إلا انها لم تكمل جملتها، إذ أخذت تصرخ من الألم الشديد. آه، إنه الألم الذي يقتل براءة الطفولة وأحلامها.

في غمرة فرحتها أرادت الإبنة أن تقول لوالدها “ألم أقُل لك أن هولاء ليسوا مجانين”، لكن الصغيرة نسيتْ أن رصاصة طائشة متمردة قد إستقرت في ساقها قبل بضعة أسابيع.

وبعد لحظات قضتها في نحيب، إستردت الصغيرة حيويتها وإبتسامتها المُعُدية. نسيتْ آلآمها وجفتَ دموعها كما تجف الماء في الجروف، لكن الدموع المتجمدة على خديها قد نقشت لوحة تحكي قصة أحزانها. أردفت الطفلة في هدوء وكأنها تخاطب أحياء وموتى قومها سوياً. “ألم يقتلوا العم ابان ايونق والمهندس انجلو اوطو والاستاذ كيمو ناكواروآخرين؟” سالتْ والدها وهي غير آبهة بالآمها.

“نعم, لقد قتلوا أيضاً إبن عمك اوكويج وعمك اوفارض فقد زوجته وإبنتيه في النيل غرقاً كما فقد الآلآف أرواحهم.”

بدتْ الصغيرة منهمكة في التفكير برهة، وأخذت عيناها تسافر بلا قِبلة فوق أناملها التي تداعب سوار البلاستيك الأخضر الذي يزين معصمها النحيل. وفجأة وبدون أن تنظر إليه، سألتْ “ولماذا يريدون قتلك يأبي؟”

أقرورقت عيناه، وتلعثم قليلا. ونبتت ذرات العرق على جبينه رغم أنف نفحات الشتاء. صمتَ حيناً وصمتتْ هى الأخرى لصمتِه.

“إنهم يريدون قتلي ليس لشخصي بل لأنني أنا.”

“ومن أنت، يأبتي؟”

“أنا العُمدة دينق فرج قائد فرقة أعالي النيل للفنون الشعبية، أنا أدينق ضينق، و عوض دوكة، وأحمد محجوب صاحب الموبيليات، وإبراهيم جالدونغ، وأكول حكيم، وأيول صباح الخير، وناتوالي القابلة الصحية، وعلوية عبدالفراج مربية الاجيال، وجونسون ملوال ليك، وماهر النجار في الري المصري، وعبدالعاطي الموسيقار، وهمروس الإغريقي صاحب الطاحونة بحي الملكية، وجعفر ناظر محطة البواخر النيلية، وأمبروس صاحب السينماء المتجولة، ومونسينيور موجوك مطران الكنيسة، وخميسة الميكانيكية، وجمعة أمان الفنان، واُوراج أوك هداف فريق النسر.”

أنا ملكال …أنا كل الذي كان، وأنا كل الذي سيكون. أنا ملكال تلك المدينة التي كانت تمشي الخيلاء وتتبختر على ضفاف النيل عند الاصيل وتخلد للنوم كطفل قرير العين كلما عَسعَسَ الليل. إنهم يريدونني الآن مدينة بلا ذاكرة، وبلا ماضي او حاضر، وبلا مستقبل او هوية. إنهم يريدونني مدينة من الاطلال والقبور لا تشرق فيها الشمس، وتنبت على جنبات طُرقاتها ورد أسود، مدينة يزورها الموت محمولاً على أكتاف الليل. ولكن لأنني أنا ملكال، سأنهض من الاطلال كما العنقاء من الرمضاء، طال الزمان أو قصر.”

بدتْ االصغيرة مشدوهة كمن تستمع لعندلة عندليب حزين او لسجع قمري جريح في براري الوحدة والألم. وفي لحظة خاطفة تفوح منها عبق الطفولة، وضعتْ الصغيرة يديها النحيلتين على خاصرتها وقد إرتسمت على وجهها إبتسامة نضِرة كصحابة خريف. قوست ظهرها القصير وأشرأب عنقها نحو أبيها حتى كاد رأسها يلامس جبينه الندي، وفي دعابة.

السفير موسس أكول أجاوين

تعليق واحد

  1. موسس هو شقيق لام اكول الذي لايحتاج لنعريف , وهم من سكان الملكية في ملكال . عندما كان موسس سفيرا في السويد قدمته للاخ عمار . وطلعوا جيرانا واشقاء في الرضاعة , كما كتبت فماكال هي اقرب مدينة الي قلبي بعد الحب الاول امدر .
    لقد كتبت عن ملكال الجريحة قبل فترة , وربما لهذاالسبب ارسل لي موسس هذا الموضوع الذي ارسلته للراكوبة . الاشخاص الذين ذكرهم موسس جزء من حياتي . الميكانيكية خميس هي زوجة العم برونو الثانية . والاولي هي اوجولو من الانجواك . وله منها بنتان . ولم يخلف من خميسة . وتزوجت خميسة وولدت من اطفالها نوال . وتزوج برونو جدة اولادي فقوق نقور ومنوا بيج وعثمان وبرونو .

  2. شكرا سعادة السفير موسس اجاوين على هذه الكلمات الحارة التي تعبّر عن الاستياء من إنتشار
    ثقافة الحرب والدمار في هذا البلدالذي نال استقلاله حديثاممنياالنفس بحرية وسلام وتنمية وغد مشرق. ستنهض يا سعادة السفير هذه البقعة الطاهرة من هذه المحنةبعظمة وحكمة رجالها ونساءهاوستأخذ مقعدهابين الأمم المحبة للسلام والرفاهية.

    عمر عبد الله

    مونتري-كلفورنيا

  3. والله ان الذى يحصل فى الجنوب ليدمى القلوب حزنا…لم اكن اتصور ان ينزلق الجنوب لهذا المستوى من الحرب الاهلية…ان ترى صور نساء قتلى على قارعة الطريق ..واطفالهن يهيمون فى الطرقات ويتيهون فى العراء..نرجو من الله العلى القدير ان تتوقف حرب الجنوب…وان يطغى صوت العقل على صوت الشر…وشكرا سعادة السفير موسس على هذا الوصف المحزن للحرب…وتحياتى لكم من شمال السودان

  4. شكرا للكاتب على كلماته التي هيجت الذكرى وأرجعت ذاكرتي الى أيام الطفولة في حي الملكية بمدينة ملكال الخضراء .تذكرت سوق الجو والري المصري وسوق ملكال ومدرسة البندر ومدرة الملكية ألولية والأستاذ محمد عوض من أولاد الملكية ، تذكرت النقل النهري والورشة والقطاطي ومصنع الثلج والزفة يوم العيد وطاحونة الخواجة اليتيمة . والشاب آدم الذي حيانا ونحن صبية نلعب ذات يوم وكيف انه إتجه الى النهر ليستحم فإذا به ينحشر تحت إحدى الصنادل الراسية فيموت غرفاً . واذكر كيف هربنا من أمام منظر الجنازة حين إخراجها من النهر . تذكرت السينما المتجولة التي تأتي بهاوزارة الإعلام كل أسبوع في الساحات العامة لعرض بعض الأفلام . ولا زالت أغنية جمال دنيانا للراحل إبراهيم عوض تتردد في أذاني بعد خمسين عام .
    إنها ذكريات لا تنسى ، منزل فضل وردة والأطرش الذي كان يعمل معهم ولا زلت اذكر بعض كلمات من رطانة الشلك . سقى الله تلك الأيام .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..