ضحويَّة شبرين

والضَّحوية هي الحصَّة التي يتلقَّى فيها الحيران درس القرآن الكريم، والتي يتولَّى فيها الشَّيخ الكتابة على ألواح الحيران. وهذه الكتابة تتمُّ بطقوسٍ موغلة في بيانها وإبانتها وسحرها الوضيء. تُعدُّ الألواح التي يدرس بها الحيران من خشب العُشَر الخفيف ومن خشب الحَراز، ثم تُطلى بالجير الأبيض وتُترك في الشَّمس لتجفَّ، ثمَّ يبدأ الشَّيخ بالكتابة عليها بقلم البُوص والعَمَار الأسود. ويظلُّ الحيران على اختلاف أعمارهم ومستوياتهم يتحلَّقون حول الشَّيخ، يُشاهِدون هذا الطَّقس التَّشكيليَّ الذي تكونُ غايتُه تعليم القرآن والكتابة والقِراية، لكن تجد الأنظار مشدوهةً بتمعُّنٍ ومتعةٍ فطريَّة وهم يُشاهِدون الحروف تتخلَّق وتتعرَّج، ثمَّ تستقيم وتميل وتتمدَّد، ثمَّ ينعقد بعضها ويرتبط بحرفٍ آخرَ يتدلَّى بحرفٍ معقوف. وتكونُ يدُ الشَّيخ تتسلَّلُ في رشاقةٍ محسوبةِ الحركة: متي تبدأ، ثمَّ تصعد بالحرف، ثمَّ تنزل قليلاً، ثمَّ تنحني، ثمَّ تتوقَّف؛ ورويداً، تأخذ القلم إلى دوايةِ العَمَار. وهو نوعٌ من الحبر الذي يُصنع من سَكَنِ الدوكةِ الأسود، مُضافاً إليه الصَّمغُ والشَّعر.
إضافةً لدرسِ القرآن والكتابة، فهذا بمثابةِ الدَّرسِ التَّشكيليِّ الأوَّليِّ والعفوي، والذي يتلقَّاه الحيران دون وعيٍ بمراميه وأهميته؛ فهذا الدرس، الذي يتلقَّاه الحيران ثمَّ يتخطونه، يظلُّ راسخاً في دواخل ذوي المواهب والميول الجماليَّة، والذي يستيقظ بوجدانهم كالكنزِ في ثنايا العُمُر؛ فهو من الأساس المتين والزَّاخر، فتجودُ بركتُه وتأثيرُه في نتاجِ معظم الفنَّانين التَّشكيليين في مستقبل إنتاجهم وتجاربهم التشكيليَّة، وعند الكثير من منتجي الشِّعر المكلف كالشَّاعر محمَّد المهدي المجذوب وعبدالله الطَّيِّب؛ ومن المشتغلين بالطِّب، نجد التِّيجاني الماحي؛ وأهل الميكانيكا والكهربا والملَّاحين والسوَّاقين والمُغنيين والفلاسفة. ولإن أرَدنا تحديد تأثير الخطِّ علي جيل أستاذنا شبرين، والأجيال التي سبقته والأجيال التي تلته وتحصَّلت علي قبسٍ من أواخر هذا السِّحر الذي انقضى وانطوى بالحسرات، سنجِدُ التأثيرَ كبيراً وعميقا.
وضحوية شبرين وما اكتنفها من إنتاجٍ ومن سحرٍ ومن تفرُّد، هو في جملته حرصُ الفنَّان شبرين بالحضور المباشر والغير مباشر، الذي يطلُّ من خلاله في المحافل الفنِّيَّة المحلِّيَّة والخارجيَّة، هي إيداعُ إبداعِه الفنِّي الذي يتكنز ويتبلور من سهول اللَّوح. وظلَّت تجربة الخلوة هي المعين الدَّافق والمُلهِمُ الأوَّل في مساهمات الفنَّان شبرين، وأقصد الخلاوي السُّودانية. ففي تصاميم شبرين، تجد الشَّرافة، وتجد تداخل الحروف ذواتِ الأشكال المتنافرةِ في رسمها وإيقاعها، كخطِّ الرُّقعة والخطُّ الكوفيُّ الذي يمتثل بالحضور الكثيف في مجمل أعماله. وشبرين ذو خلفيَّة راسخة وحقيقيَّة؛ تملَّكته بعنف، ورافقها بمتعةٍ وإخلاص، وظلَّت هي معينه الذي لم يجد منه فكاك.
وتحفظ الذَّاكرة أعمال معرضه المُقام بالمركزِ الثَّقافيِّ البريطاني، والذي بلور أشعار الشَّاعر الإنجليزيِّ، وليام شكسبير، تشكيليَّاً؛ فأتتِ الأعمالُ على براعتها، إلَّا أنَّ لحمتها وسداها كانت من تأثير خطوط الخلوه. وقد شارك معه الفنَّان أحمد عامر جابر أيضاً ببلورةِ ورسمِ أشعار الشَّاعر الإنجليزي، توماس إستيرنز إليوت (تي إس إليوت). ونحمَدُ للفنَّان أحمد محمَّد شبرين اهتمامَه الكبير والنَّظرَ في القيمةِ العالية للخطوط العربيَّة، التي يكتُبُ بها غِمارُ الفنَّانين المجهولين والمُهمَّشين، والذين ظلُّوا يُبدِعون بهِمَّةٍ ونكرانِ ذات في جميع أصقاع السُّودان، والذين مهَّدوا الطَّريقَ سهلاً وملَّكوه لفنانينَ كبار، انتبهوا للهبه وارتقوا بفنِّ السُّودانيين إلى مصافِّ العالميَّة. والسُّودانُ عامرٌ باللَّقي وبالتَّفرُّد؛ وكثيرٌ من الفنَّانين – سودانيِّين وعرب وأجانب – اقتبسوا من تجربة شبرين، فيُطلقون على هذه المُقتبساتِ الحروفيَّة العربيَّة. رحمةُ اللهِ على الفنان شبرين؛ وفي الخالدين، بقدرِ ما قدَّم من درسٍ بالغِ الأهمِّيَّة لمنابعِ وعيِنا وإلهامِنا المنسي.
عبد الواحد ورَّاق