عبء” و”كاهل”.. ومواطن.. مجدداً يعود بدر الدين ليستدعي الحلول القديمة

الخرطوم – الزين عثمان
يقف المواطن يوسف حسين في صف الغاز للحصول على أسطوانة مثله وآخرين، وهو يقرأ في ذات اللحظة حديث وزير النفط المؤكد على عجز وزارته في إيجاد حل المعضلة، وهو عجز في صورته النهائية عن مواجهة مافيا الغاز.. يغادر صف الغاز إلى الفرن للحصول على اثنتي عشرة رغيفة بأربعة جنيهات، مؤكداً أنها تعجز عن إكمال الوجبة في ظل التناقص المستمر في حجم الرغيفة.. يقف جاهداً من أجل المحافظة على ابتسامته قبالة الجزار للحصول على ربع كيلو لحمة بخمسة عشر جنيهاً، في بلاد تحتل الصدارة في عدد رؤوس الثروة الحيوانية.. ويواصل رحلة عودته إلى المنزل بعد أن يدفع خمسة جنيهات ثمن تذكرة العربة الهايس، وحين يحتج يرد عليه صاحبها: “عجبك تركب ما عجبك فضِّي المقعد”.. وحين يحس بمرارة حديثه يكمل “نعمل شنو؟ الحكومة عاوزة كدة”.. يمكن لحسين الصبر على ما يحدث، لكنه ظل عاجزاً من ابتلاع عبارة الوزير أن الشعب هو المسؤول. ووضع استفهامه: مسؤول كيف يعني؟!
حسناً، مجدداً يعود بدر الدين محمود أمس الأول من تحت قبة البرلمان، ليستدعي الحلول القديمة. لا ينسى الرجل أن يغازل النواب بضرورة تمرير النسخة الثالثة من رفع الدعم عن السلع الرئيسة؛ فبجانب المواد البترولية، سيدخل الدقيق.. سلعة أخرى يجب أن يتم رفع الدعم عنها، في سبيل علاج الأزمة الاقتصادية التي تطحن المواطنين..!!
ولا يبدو انتهاج الحكومة لسياسات رفع الدعم بالأمر الجديد، لكن ما يبعث على رفع حاجب الدهشة هو تحميل الوزير وزر المشكلات الاقتصادية في البلاد للمواطنين. وبحسب بدر الدين فإن الشعب هو المسؤول عن حالة المسغبة التي تضرب السودان. ولا يبدو الوزير متردداً في قوله إن عدم الإنتاج واللجوء لخيار الاستهلاك هو ما هبط بالبلاد في هذه الهوة السحيقة.
وقبل أمد ليس بالقصير كان بدر الدين محمود، نفسه، وبوصفه وزيراً للمالية في التشكيل الوزاري الجديد يضع يده على المصحف الشريف، ويبدأ مسيرته ببذل الوعد: “سأكون رحيماً بالمواطنين”. ولم يكن أمام صحف الخرطوم غير الاحتفاء بحديث مسؤول الأموال في البلاد المنكوب شعبها بالفقر، وقلة الحيلة أمام سياسات رفع الدعم، التي بدت وكأنها عادة سنوية للحكومة، لا يمكن تسيير الأمور دون حضورها..!!
بعدها كان محمود يبشرنا باكتمال الولاية على المال العام، وهو يلوح أمامنا بأوراق التحصيل الإلكتروني التي لا يأتيها الباطل والفساد من أمامها أو خلفها.. وأنت تتفرس في الورقة الخارجة من جهاز المتحصل تضحك ضحكة المنتصر، فأنت الآن تدعم خزينة الدولة بـ(الباب العديل)، ويغادرك وجع إعادة رفع الدعم تماماً.. أنت تدفع والحكومة تتحصل المدفوع. إذن، لا مشكلة تلوح في أفق الميزانية القادمة ولا أزمات تستوجب التدخل بمشرط رفع الدعم.. أو ربما هكذا كان ينبغي أن يكون التقدير..!!
وثمة من يقول إن الحكومة تحاول أن تجد مخارجة لذاتها، وهي في ذلك الهدف تستخدم فرضية (رمتني بدائها ثم انسلت).
وبحسب القيادي بتحالف الإجماع الوطني ساطع الحاج الأمين السياسي للحزب الوحدوي الناصري فإن حديث الوزير يعبر عن عدم احترام للشعب السوداني في المقام الأول، وهو تأكيد – في الوقت ذاته – على الاستمرار في مشروع الفشل السياسي للمجموعة الحاكمة في توظيف موارد الدولة، وتوجيهها نحو خدمة المواطنين.
ويضيف ساطع بالقول هنا متجاوزاً مسؤولية الشعب عن الأزمة الاقتصادية إلى الدواعي التي تدفع بالمسؤولين لتحميله وزر تقصيرهم، مؤكداً أن تحميل الشعب هذا الأمر لم يكن وليد تصريح وزير المالية بدر الدين محمود الأخير.. ويحمل الأرشيف عبارات متعددة على هذه الشاكلة؛ ففي حملة رفع الدعم الأولى خرج وزير المالية علي محمود لينتقد الثقافة الشعبية السائدة في الغذاء، معتبراً أن التحول نحو استهلاك القمح بديلاً للذرة هو أحد تمظهرات الأزمة، وهو ما دفعه بمطالبة الشعب السوداني بضرورة العودة لأكل الكسرة، وبدا كأن العودة الكسرة هي آخر الحلول في الفقه الحكومي.
وكانت النائبة البرلمانية في مجلس الشيوخ سعاد الفاتح قد طالبت النساء السودانيات في العام قبل الماضي أيضاً بضرورة عواسة الكسرة وتربية الأغنام لمقابلة تحديات المرحلة الاقتصادية.
ودون أن نتجاوز الكسرة، فإن حزب الأمة المعارض في آخر ظهور له يقول إن البلاد مقبلة على مجاعة.. ومن المؤكد أن حزب الإمام الغائب يضع الوزر على عاتق الحكومة وليس الشعب، فالمجاعة وفقاً لقاموس الأمة وليدة السياسات، وابن شرعي للحرب والنزاعات، والعجز عن إيجاد حلول المشاكل السياسية.
وعلى لسان الأمين السياسي للحزب الوحدوي الناصري يشخص السؤال قبالة نقد المسؤولين المتوالي للنمط الاستهلاكي وتحميل المواطن في كل مرة وزر الحاصل؛ متى كان المواطن مسؤولاً عن تسيير دولاب الدولة؟ فالأخيرة وفقاً للمنطق السليم هي التي يجب أن تقود الشعب لتحقيق تطلعاته وليس العكس، وبالقياس على ضعف عملية الإنتاج نفسها ?والحديث مازال لساطع- هل المواطن هو الذي كتب شهادة الوفاة لمشروع الجزيرة؟ وما مدى مسؤوليته عن ضياع مشروع النقل الميكانيكي والنقل النهري والخطوط الجوية السودانية والخطوط البحرية؟ ألا يكفي المواطن أزمة أنه من يدفع فواتير الإدارة السياسية، بل فاتورة فساد السياسيين أنفسهم؟ على الحكومة أن تبحث لها عن شماعة أخرى غير الشعب، فلا يستوي أن تلزمه بدفع الفواتير وتحمِّله الوزر، في الوقت ذاته. وبحسب ساطع – فإن اللجوء لخيار رفع الدعم أمر لا تستطيع الحكومة دفع فاتورته هذه المرة، ولن يحتمله الشعب للمرة الثالثة توالياً ولابد من البحث عن حلول أخرى .
وبحسب ما هو ماثل، فإن البرلمان سيُمرِّر ما يطلبه وزير المالية، وعلى الشعب الاستعداد لمواجهة ارتفاع جديد في السلع الاستهلاكية، هذا إن توفرت في الأسواق. وعليه أيضاً القبول بتحميله وزر ضعف الإنتاج، وقبل كل ذلك على بدر الدين العودة لقراءة تصريحه الأول، وهو يعد المواطنين بالرحمة، ولكن الرحمة في فقه الوزير ربما تعني تحميله وزر الأزمة الاقتصادية. وعليه أن يدفع فاتورة مسؤوليته.
اليوم التالي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..