عسل شرقاوي

اسحاق الحلنقي
في البدايات الأولى من الستينات كنا نقيم سوياً أنا وبجانبي الأخوين العزيزين الشاعر الراحل «عمر الطيب الدوش» والقاص الكبير «عيسى الحلو».. وذلك في منزل متواضع في حي العرضة بأمدرمان جدرانه من الأسى وعرشه من الحنين.. كان «عيسى» يعمل أستاذاً لمادة اللغة العربية في مدرسة الدوش الثانوية.. أما «عمر» فقد كان أستاذاً للغة الإنجليزية في نفس المدرسة.. كنا نلتقي نهاراً ونظل في أنس مستمر تتخلله ضحكات طفولية لم تكن تعلم أن هناك اخطبوطاً من الأيام ينتظرها بألف عين.. أذكر مرة أن الأستاذ «عيسى الحلو» حدثني في أمر أزعج الشاعر الراحل «عمر الطيب الدوش» كثيراً.. حيث قال لي إن الموهبة الشعرية لا يمكن أن ترتقي إلى سماوات إبداع حقيقي إلا في حالة واحدة.. وهي أن تقرأ وتقرأ لشعراء العصر الجاهلي مروراً بشعراء الوطن العربي في عصرنا الحديث ولو كان ذلك تحت أضواء المصابيح الشاحبة في الشوارع.. طلب منه الأخ «عمر» أن يدعني كما أنا.. وأكد له أن قدر الأنجم أن تولد ببريقها.. ونبهه إلى أنه لم يرَّ يوماً عندليباً إلتحق بمعهد للموسيقى.
* أغرم الفنان «التاج مكي» في بداية مشواره الفني بعذراء من كسلا.. بعد أن جاء إلى كسلا من مدينة كوستي مرافقاً لوالده الذي جاء للعمل موظفاً بالمدينة.. أخذ «التاج» يلاحقني بإستمرار أن أكتب له قصيدةً تعبر عن «شاكوش» ضخم تلقاه على رأسه من عذراء كسلا مشرقة العينين.. فما كان مني إلا أن أكتب له أغنية «حبيت عشانك كسلا».. وقد تساءل الكثير من أصدقائي كيف لي أن أفضل عيون حسناء على عيون كسلا وهي الأم التي نشأت بين أحضانها ويجب أن يكون حبها مقدماً على كل حب.. وقد جعلني هذا الموقف أجعل الباب موارباً بيني وبين بعض «عشاق الشمارات» خوفاً على أخي «التاج» لأن مجرد كشف المستور عن خليفة الأغنية قد يعرضه إلى هلاك مؤكد.. بعد أكثر من ثلاثين عاماً ذهبت إلى مدينة كسلا في زيارة عابرة فإلتقيت ببطلة «حبيت عشانك كسلا» فقلت لها ممازحاً: «صوت السواقي الحاني ذكرني ماضي بعيد».. فقالت لي ضاحكة: «وعلى الرمال آثارك طرتني ليلة عيد».. أكد لي ذلك أن الحب الأول لا تموت له إرتعاشة.
* كان الدكتور «أحمد عبدالعال» الفنان التشكيلي المعروف زميل دراسة لي بمدرسة «وقر» الثانوية.. كنا نتقاسم حجرة واحدة في داخلية بها أكثر من مائة طالب.. كان «أحمد» من الطلاب المجتهدين وكان يرفض دائماً أن تطفأ الأنوار في وقتها المحدد لأنه يود أن يواصل استذكاره.. وكنت أنا أتمنى أن تطفأ الأنوار في وقتٍ مبكر لأنني أريد أن أنام.. وقد عرضنا ذلك لكثير من المشاكل الصغيرة الحلوة أحياناً بإعتبار أنني طالب غير جاد وأنه الطالب الذي يسعى أن يكون علماً في سوداننا الحبيب.. في ليلة ما وجدت نفسي أرقد مريضاً بحمى الملاريا.. حاول معي أخي «أحمد» أن أرى طبيباً ولكني كنت أرفض ذلك بشدة خاصةً وأن منظر الإبر المستعملة في علاج الملاريا كانت تثير فزعي.. وقد تم الشفاء لي منها بدون أن أتلقى حقنة واحدة.. والآن كل ما إلتقيت بهذا الإنسان الجميل ناداني قائلاً: أهلاً بالرجل قاتل جرثومة الملاريا.. ثم يضيف: لقد قتلت الملاريا الآلاف من البشر ولكنك أنت الوحيد الذي تمكن من إقامة الحد عليها وذلك يؤكد أن الشعراء محصنون بالكلمة الحلوة من كل الأمراض.
عسل شرقي جداً:
* لو يجيني الكون ده كلو زاهي باسم ليا فلو
روحي يمكن يوم تملو إلا ريدك ما بملو
أبقى خليها الكواكب في حضورك يوم يهلو
أصلك اتعودت دايماً تبقي لي أنوارا حاجب
ما علي لو جات مواكب ولا فاتتني المواكب
القمر ما دام معايا أعمل إيه أنا بالكواكب
فنون