أخبار السودان

في حب نانسي عجاج، ثلاث لوحات إليها.

1: الآولي.

نانسي عجاج ، أعطيك صوتي .

” أصوات عليا حبيبة .

أصوات أولئك الذين ماتوا ،

أو الذين فقدناهم وكأنهم موتي …

أحيانا يتكلمون معنا في الأحلام .

وأحيانا ،

حين نفكر …

نسمعهم .

إن في أصواتهم صدي القصائد الأولي …

نسمعها لبرهة ،

مثل موسيقي بعيدة تخبو في الليل ! ” …

– ” أصوات ” : قسطنطين كفافي –

من هي نانسي ؟

نانسي بدر الدين عجاج ، الإبنة الكبري للموسيقار والملحن الراحل بدر الدين عجاج . ولدت في أمدرمان في الثاني من مارس 1979 . والدتها نوال المبارك عبد السلام ، وجدها من والدتها العمدة المبارك المعروف . تفتحت ، أول ما تفتحت ، علي أجواء الموسيقي والألحان والإيقاع في الأغاني العربية والغربية . كان في البيت العائلي قوة ما ، غامضة وسحرية ، به أشجان وموسيقي تصدح حد تصيب البيت بأكمله بروح الغناء ، بتلك القوة الغامضة التي تسيل سيلانا في الوجدان فتكاد تفيض إذ تلامسه فتجعله في النشوة ، الجسد نفسه يعيش تلك النشوة فيبدأ شروعه في نضال الموسيقي و … في رقصها .

قال لوركا إنه سمع يوما أستاذ جيتار عجوز يقول : ” أن الدويندي ( يعني به روح الغناء ) ليس في الحنجرة ، أنه يطفر من أخمص القدم ” . وهذا يعني انه ليس مسألة قدرة ، بل هو مسألة شكل حقيقي للحياة ، للدم ، للثقافة الغابرة ، وللفعل الخلاق أيضا . في البيت ثمة رعشات ، ونبضات ، وخفقان ، وتيه ووله ، فيه شيئا من المواجع والفرح والتوجد ، التوجد كلوزة خضراء في توقها المجنون لتصير فراشة في شبقها المحموم للرحيق و … للعذوبة ! شيئا ما ، لعله الفرح ، أخذ يتشكل ، بالأحري ، يتخلق في وجدان الطفلة الطري ، فنشأت لديها تلك الرغبة المحرقة للمعرفة ، لرؤية وجوهها في عديدها المثير ، لكأنها ? وهي في رحلة بحثها – قد اهتدت لوجه الرب الخفي عن قلب طفولتها فأستراحت برهة إليه ، لكن الرب سيبعث بأول أشواكه النارية إلي من يبحث عنه ، إليها ! هكذا أنغرست لديها الأشواك ، في مواضع الاحساس والرهافة واليقظة ، في عصب إنتباهاتها وسط غمامات الحلم ، فصاحبتها تلك الروح ورافقتها . تقول نانسي : ” إنطلاقتي الحقيقية كانت في هولندا ” . هناك أستقرت عائلتها ، وهناك أيضا أقامت حفلها الأول ، حيث شاركت والدها حفلا غنائيا بمدينة هارلم الهولندية في مارس / أبريل 1999 . وهناك ، حيث الوقت فرح والمكان زهور و الذكري حنين للوطن ، تغنت بأغان من التراث ، ومن الحقيبة حتي تتيح لصوتها أن يصل ، فغنت : ” وداعا روضي الغنا / ياروحي أنصفني / أنة المجروح / زيدني من دلك شويه / ظلموني الناس / الأمان / جوهر صدر المحافل / الفارقت سيد ريدا ” . الأداء والتسلسل اللحني ثم الصوت هم من كانوا في صدارة الموسيقي و … في وجدان الفنانة ، فقد إعتمدت ، تلك الفترة ، علي الصوت والأداء ، حتي تستطيع التواصل مع وجدان شعبها كما رأت .

في حال كونها مغنية …

إحتراف الغناء والموسيقي يضع المرء أمام تحد قاس في مثل واقعنا الخشن . فهنالك الآن ، بالطبع ، توجد ” تقييمات ” كثيرة ومتنوعة بشأن المغني ، وتتكاثر جدا ، كما هو حادث الآن ، عندما تكون المرأة هي المغنية ، هنا تتكسر النصال علي النصال فتنال ، أو تكاد ، من الجسد والروح ، وتتعاظم وتتسع المعوقات والمنغصات من كل شاكلة ولون . تصبح المغنية أمام تلك القسوة وقد تصاب بالخيبات والإنكسارات و بالتالي يتدني مستوي إبداعها وقد يوهن من قدراتها ويفت من عضدها وشوكتها ، هذا يحدث كثيرا جدا عندنا ! تقييمات مبالغا بها موجودة بكثرة ، أما دقة الأحكام التاريخية والجمالية في شأن الموسيقي والغناء فهي ضعيفة جدا ، للأسف ، أينما وجدت ! أما وقد غدت نانسي مغنية ، حد صار هذا الضرب من الفن الراقي الجميل قضية حياتها وجوهر وجودها نفسه ، فقد رأيتها تنحاز ، بقوة الإرادة ، إلي صف التصنيف الاجتماعي الشاعري لفن العزف علي آلات متنوعة وإستنهاض كل قدرات الجسد والروح والوعي لتكون كلها في خدمة ذلك الغامض في دواخل الفنان … رأيتها متباينة في رؤاها ، مثقفة وذكية ، لديها شيئا من الخيال الفني ، ولديها شيئا ما في الموسيقي ، رأيته معاصرا وحيويا ونابضا . في شخصيتها حضور يشع فيما حولها أينما توجهت ، وبقلبها النبيل تري ما تري . قليلة الصخب والكلمات ، تسعي لتكثير القلق لديها عندما يتعلق الأمر بالموسيقي والغناء ، مثلما ذبابة الخيل تقلق الفنان وتثيره بإستمرار علي قول سقراط . لكنه ، أيضا ، قلق ضاج يمكنها من الشعور به والدخول ? بجسارة ? في تحدي وصهر المتاح أمامها : المستقبل . الذي هو زهوها وجراح روحها في ذات الوقت . تكون ، معظم الأحيان ، في حالة أقل حيز من الكلمات ، حال الصمت ! قلت إن بها شيئا غير يسير من الخيال ، وهو من متلازمات الفنان لا شك ، لكنه يعني عندها التحرر والإنطلاق ، التحرر من سلطة الآخر علي الأرض وفي من هم حولها ، والإنطلاق ، بالفن ، إلي الذري وإلي الأعالي . تعشق التجوال والترحال ، فقد عايشته في سنين عمرها الغض في نضارته ، فالمسافرون ، عادة ، يوقفون إستحقاقاتهم و ” روتينهم ” المعتاد من أجل تجربة ما ، ليجدوا فيها إيقاعات وطقوس جديدة . كما إن المسافر ، خلافا للسلطان ، الذي يتعين عليه حماية مكان واحد والدفاع عن حدوده ، تعبر الأراضي وتتخلي طيلة الوقت عن مواقها الثابتة ، لتغدو في الجديد المبتكر لأجل الفن في وطنها بالذات وفي الرحاب الفساح فيما سواه . تري الإنحراف عن المسارات المعهودة في الناس فعلا تحرريا ويفضي بها إلي الحرية ، هي تعيش في هذا المكان أو ذاك ، قليلا أو كثيرا ، وأحيانا في نقيضه ، حراك لكأنه الإيقاع في موسيقي روحها .

تجليات … تجليات .

” يختارني الإيقاع ،

يشرق بي …

أنا رجع الكمان ولست عازفه

أنا في حضرة الذكري ،

صدي الأشياء تنطق بي

فأنطق ! ” …

– درويش –

من بيئتها العائلية ، التي هي بعضا حيا من حياتها ، عرفت إمكانياتها اللحنية والفنية ، عرفت إيقاع الحياة ، فعاشت وقتها كأن الحياة كلها موسيقي وغناء ، والموسيقي هي الإنسجام والتآلف والمؤازرة في صيغها الرحيمة ، لهذا ” يروعها ” النشاز من أحد آلاتها ، فترفضه . لكن في أطوارها ما هو جدير بالتأمل والدرس : الهشاشة والألم والخوف والشعور بالوحدة ، جميعها مراحل عايشتها بعمق في مسيرتها ، سواء في جانبها المادي أو من خلال ضعفها العاطفي . فهي تعاني أحيانا من إنتقادات بعدم التجسيد الغنائي الملموس الذي يخصها ، وبالتباطؤ والتأني والتململ وعض الأظافر ! لكنا نجد أن كل ما هو ظاهر منها ? في عين روحها وجسدها وسعيها ? هو فعل المقاومة . المقاومة ضد ” الأقوياء ” ، سواء في الأسرة أو المجتمع أو في حقل الغناء ، تلك مآثرة لديها وجوهرة . إنها في المقاومة كفعل يومي معتاد لديها ، في تشغيل الموسيقي كل برهة من حياتها . فالموسيقي والغناء هما ترجمة لحالتنا الثقافية ولحظتنا الحضارية معا ، وهما المؤشر المجرب لمدي فعالية وعينا الاجتماعي وتراثه الفني وإنعكاساته علي الشعراء والموسيقيين والمغنين . الغناء ، في أشواقه العليا ، يود أن يجعل روح الشعب متجانسة ، تتفاعل مع أسئلتها ، تلك الأسئلة الشجاعة التي تزحم عليها مخيلتها وتغذيها الأغاني بأسباب الرفقة والسمو والحب ، وبالأمل والثقة في المستقبل ، وهي تسعي ، من بين الكثير الذي في سعيها ، لتساعد شعبها علي الإنعتاق من ربقة تدجين الإسلام السياسي لحياة الوطن ، فالوطنيات من الأغاني والعاطفيات هي من جواهر وجدان الشعب يحفزانه علي النضال والسعي صوب المستقبل . والأغاني هي حاملة نجوي الشعوب ولوعة روحها ونشيجها حتي يفيض ويغمرنا بحلاوة الأحساس الذي يجعل الوجود نفسه أكثر رقة وبهاء . لربما ، لأجل ذلك ، وجدت لديها

” فردانية ” مغموسة في الهم الجماعي لشعبها وأشواقه لحياة أفضل ، هذه الخصيصة تغذي روح القدرة لديها ، تدعم تلك القدرة غير الخاضعة لشئ سوي ذلك الذي يرهص بداخلها : الموسيقي والغناء . وهي ، في ظني ، علي يقين أن هنالك هاوية متربصة يقف المرء أمامها عاجزا كونها آلة تعمل علي إخماد أية روح إنتقاد معرفي وثاب ، لكنها ? أيضا ? تعلم أن ” المخاطرة ” بكل شئ في سبيل العثور علي وسيلة ما ، وبناء جسر ما ، بشكل إنتقادي حالم وخلاق ، هو ما يضع ، دائما ، حدا للسلبية ويوقف لديها الشعور بالهزيمة ويكبح كل مشاعر للإستكانة والرضوخ ، لكأنها تعيش فنها ، تماما مثلما قال به سعدي :

” كل الأغاني انتهت …

إلا أغاني الناس .

والصوت لو يشتري …

ما تشتريه الناس ! ” …

وطن بلا أغاني أفضل منه المقبرة …

تقول نانسي ، إنها قد أشتغلت مبتدي أمرها علي ما أنتقته من تراث الغناء ، تلك الأغاني المحبوبة ولها في وجدان الناس طرب ودلالات . فعلت ذلك ليصل صوتها و الأداء الشخصي لها إلي الناس بالوجه الذي يعرفونه ويحبونه فيطربون له . تلك كانت رؤاها ووجهتها ، وفي ظني إنها قد حققت نجاحا في ذلك ، قد مهدت لقلبها ورؤاها طريقا لينا تسير عليها من بعد .

لكنها ، إذ فعلت ذلك سرعان ما أفصحت عن ما في رؤاها ، معلنة في الناس أغانيها خاصتها ، فكانت ” رفقة ” ليحيي فضل الله أول أغانيها الخاصة ، أنتقت وإختارت النص وأجرت عليه اللحن و موسيقاه ثم رفدته بالصوت والأداء ، الصوت والأداء جوهرتين في أعمالها الغنائية . في علمي إنها قد أصدرت ثلاث ألبومات حتي الآن : ” سحر النغم ” ، مقتطفات من التراث الغنائي قصدت أن تمد عبرها جسور للتواصل بينها والمستمع مستخدمة ماهو مألوف لديه ، فقد نفذته بمصاحبة آلتي العود والكمان واشتمل علي ست أغاني : ( ولي المساء / عازه الفراق بي طال / فلق الصباح / المصير / في الضواحي / ظلموني الناس ) . الآخر كان ” رفقة ” وأحتوي علي سبع أغاني : ( رفقة / يازمن / ما ذنبي / جسمي المنحول / الطيف / بلدا هيلي أنا / شقي ومجنون) وقد اعتبرته يفصح عن شعورها بأن تحكي عبره وتتحدث مع نفسها وعن نفسها ، أي هو بمثابة تعريف عنها . وكان ما سوف يكون ، فقد عرفت صوتها ، عرفت الأداء الذي تدرجت عليه عتبة من بعد عتبة حتي حذقته ، وعرفت إلي الملأ ذلك الغامض الذي يكمن في دواخلها ويحركها إلي الغناء ، أفصحت ، إذن ، بمكنونها الذي كان مدخرا في حرزها فغدا في الناس سيماء عليها وملامح . لم يعد أمامها ، وحالها ما آلت إليه ، سوي أن تقول ، الآن ، قولها في غنائها ، فكان أن أشهرت ألبومها الثالث : ” موجة ” ، فجعلت فيه خلاصتها وشيئا من رحيقها في سبع أغاني من خاصتها ( موجة / مرحبتين بلدنا حبابا / ضحكة / داري عينيك / ألف نهر ونيل / أهلا بيك / ثم أندريا ) . غدت عدتها الموسيقية ورؤاها في اللحن والأداء في نسيجها ، في ذلك الذي لا يفسر ولا يسعه الوصف ، الكامن الذي ? في كمونه ? يدلق العافية في جسد الأغنية فيكسبها النضارة والشروق ، تعرفه و … عرفتنا إليه إذ قالت عن هذا الألبوم بأنه ” انتاج نوعي ، قدمت فيه الخاص ” .

لنعطيها أصواتنا ، طيوفها …

تقول إنها قد ولدت وفيها روح الغناء والموسيقي ، وهما طبع فيها منذ كانت . وأنهما أشواقها وتطلعها إلي الذي يجب أن يكون ، حيث تلامس عبرهما وجدان شعبها وروحه أيضا ، وقطعا ليست صدفة أن تغنت ب ” عازة في هواك ” أول أغانيها ، وكان من اشواقها أيضا حين دخولها ” تجاريب ” التلحين فكانت في غناء ” حكاية الوردة ” لهاشم صديق ، و ” الفنان الصغير” لفيصل عبد الحميد ، والأخيرة من الغناء لأجل الأطفال ، ولها في شأنهم حب كثير وأعمالا سنراها في البهيات . ولكن ، ما الغناء في آخر الأمر ؟ هذا الحدث الغامض الذي يجعل الشئ طيفا ، ويجعل الطيف شيئا ، ولكنه قد يفسر حاجتنا لأقتسام الجمال العمومي علي قول درويش . تجربة الغناء لديها تحتاج منا تأملا وسيعا فيها ودرسا لخصائصها وجواهرها ، ذلك ما سوف نكون في السعي إليه رويدا رويدا .

أسميها الغمامة ،

غنويه

ضليلة …

بسمة وفرحة

للناس الغلابة !

نانسي بدر الدين عجاج ، أعطيك صوتي ، ملء قلبي و … صوتي !

2: الثانية.

شن بتقولو في الذي ما بين وردي ومحجوب ونانسي*!

—————————————–

(جيتك عاشق أتعلم من الأيام

لقيتك في طشاشي دليل

وفي حر الهجيرة مقيل

لقيتك في حياتي جذور

بنية اتلفحت بالنور

مهجنة من غنا الأطفال

ومن سعف النخيل والنيل

ومن وهج الشمس موال)…

– محجوب شريف –

في وقت سابق من هذا العام 2017م، وهي تعد نفسها كلها وعدتها للأحتفاء، غناءا، بمرور عقد كامل علي مشروعها، حلم حياتها، في الموسيقي والغناء والشعر، وقتذاك، والفرح الهياب يمسك بها، من عنقها، من روحها وقلبها، كان قد مدتني بمقطع فيديو يصور بروفة وردي لأغنية ( شن بتقولو ) مع كادرالموسيقي. لم أكن، قبل مشاهدتي لهذا الفيديو، أعلم أن بروفات بعض أغاني وردي، مسجلة في اليوتيوب، ولم أعرف، وقتذاك، دوافعها لإرسال هذا الفيدو لي، لكنني رجحت، أنه بسبب من معرفتها بحبي العظيم لوردي، والحال كذلك، فقد تمنيت أن تفعل هي نفس الشئ لبروفات أغانيها، لكانت وفرت لنا هذه اللحظات النادرة فترينا كيف تكون هي، والفنان عموما، في برهات الهيبة والحرص لتكون الألحان والأداء الموسيقي المصاحب للأغنية علي أفضل ما يكون، وكيف يطمئن قلبها ووجدانها الفني علي ذلك العمل وهو في أطواره الأخيرة التي سيطلع فيها في الملأ، ذلك هو وجه الفنان الحقيقي يبدو جليا في مصاحبة الإبداع الموسيقي. في ذلك الوقت، وهي تتأمل فيه أحلامها وأشواقها في الغناء الذي جعلته في الناس، كانت في نوازع الفن الذي في حياة أغنية تؤدي وأناشيدا تحلق في سماء الوطن، لكنها في معانقة أشواق شعبها، فتجعلها أعيادا ومهرجانات فرح وهو في بلبال نضاله اليومي. ومنذ أن عرفتها وتعرفت إلي فنها عبرها، جعلت أتأمل مشروعها، معجبا أشد الإعجاب به وحريصا، كل الحرص عليه، أخذتني ذائقتي الفنية وعلمي المحدود بالموسيقي والألحان، ثم حبي للشعر الذي لا يكون إلا بملازمته قضايا الشعب والإنسان إليها، فظللت أكون قريبا من ذلك العنفوان البهيج الذي جعلته نانسي يكون في إحتفائها الشخصي بمرور عشر سنوات علي احترافها الغناء وخوضها هذا الخضم كله، جاعلة من نفسها، من روحها وثقافتها ومن حياتها ذاتها، أحد أمضي أسلحتها الفنية التي تدعم وتعضد مسيرتها صوب اكتمال أغانيها، لا، لم أكن مشفقا بأية حال، بل كنت شغوفا مشغولا أترقب، بروح التمني والأمل، كيف ستكون عليه، هي والتجربة، عندما يحين آوان طلوعها في الناس. ظلت هي هي، والأغاني تولد من جديد، باداء وألحان هي أيضا قد طالها ما جعلته فيها من ترقية وتطوير صوب ما رأت، وهي محقة، أن سيكون فرحا وقبولا عند المستمعين، وهم، علي ما هو معلوم، كثر يعطونها من القبول زخما ودعما كثيرا حد نقول بأنه فيوضات تكاد تكون، هي نفسها، ذائقتنا الفنية الجمعية قد صارت في وجوه وافئدة الحشود التي تحف بها من جوانب المنابر كلها وتكتظ بها أينما حلت بينهم لتقول بالغناء الذي تدلقه، عافية في الأغاني لأجل أبناء وبنات شعبها، وللوطن.

كيف نظروا إليها، وردي ومحجوب شريف !

أبان توفري لإعداد مخطوطة كتابي ( كلمة في تبجيل الفنان وردي )، كنت كثير التجوال بينهما، لكي أتزود، منهما معا، وردي ومحجوب، بما يمكنني من رؤية جلية لمشروع وردي الضخم في الفن وفي الغناء والأناشيد، وفي سير حياتيهما أيضا، وهما، معا أيضا، علي ما عليه من تفرد وعلم كثير غزير بدروب الفن والشعر والنضال وتداعيتها علي مجمل الفنون عندنا وعند غيرنا. والحال كذلك، قد كانت الأحاديث تأخنا أخذا إلي ملامح الغناء في تجلياته العديدة في ساحات الغناء، إلي المغنين والمغنيات، إلي الملحنين والملحنات، إلي الأداء، وإلي الموسيقي المصاحبة وجوه الغناء، وإلي الشعر المغني هنا وهناك! وكنت أنا ( المصغي ) بإنتباه كثير لهذا كله أناله منهما وهما في تلك البرهات الشجيات، شذرات قل نظيرها من الحكي البديع ورؤيات الفن في سمو مواضعها بالذات وكيف تكون، هي بذاتها، محفزات ذات جمال وجدوي، تدعم توجهات شعبنا إلي حيث الجمال الذي يشد منه الروح نفسها فتكون في الحياة والفرح فتدفعه، بصفاء ونقاء فيها، ليكون في تحقيق أحلامه في الحرية والديمقراطية والسلام، وتلك هي البيئة الصالحة لإحتضان الفن العظيم وازدهاره. كانا، معا وقتذاك، في حال المرض كليهما، تخايلهما صور الموت كافة، ينظرانها كلها يوميا تقريبا، يريانها ويلاحظانها تدخل إليهما وهما وسط أحلامهما وتخرج، لتعود فتدخل وتخرج، يريانها جلية إذن تلك المشاهد علي غرابتها وحقيقتها المرة، لكنهما، معا، لا يريان منها إلا الحياة في تجلياتها النبيلة وجدواها التي يحفها الفرح الذي يداعب، عادة، الأحلام الكبيرة ويخالطها حد تكون الحياة تستحقها الحياة وأن(علي هذه الأرض ما يستحق الحياة ) علي قول درويش. من تلك الأحاديث، التي أعدها من نجوي الفنون وتناولاتها، ما كان يأخذهما إليها، إلي نانسي وتجربتها في الغناء. فما رأيت منهما، ولا سمعت، إلا كل الإعجاب والتقدير العميق لحال مشروعها الغنائي. نعم، كنت أعلم شيئا من تقديرهما لفنها وإليها، في شخصيتها وآفاق توجهاتها الفنية والحياتية، ثم إلي إعتدادها، وذلك من شيم الفنانين الكبار أصحاب المواهب العالية والنبوع في أعمالهم، إعتدادها بنفسها وبفنها، ولا ترضي، لأيهما إلا يكونان في السمو والعلو وفي الإبداع، يوما بعد يوم، بل لحظة أثر لحظة، بعد كل تجربة غنائية تراها في الوجه الحسن فتجعلها في الناس، غناء وموسيقي وشعر، في شرعة تطور تجربتها وأغنيتها. مما جعلاني فيه من الإنتباه إليها، وردي ومحجوب، أنهما، بما يشبه الوصية، يقولان بضرورة العناية والرعاية والتأمل في تجربتها، فهي، كما سمعته شخصيا منهما، تمتلك الصوت المتفرد، الجميل والموحي، وتمتلك نواصي الأداء في عديدها، والحضور( الكاريزمي ) لشخصيتها وهي علي المسرح، بحيث يكون السائد الكائن الموجود علي الخشبة في مواجهة الجمهور هو الصوت والأداء، يطلعان كما الضوء، من براح الموسيقي الذي يحف بها، ثم، يقولان، وردي ومحجوب، إنها مثقفة، واعية، تعرف كيف تختار كلمات الأغنية. ومن بعد، حين تعرفت إليها، عرفت، وشهدت، كيف أن روح الشعر كائنة في قلبها وتملأ عليها دواخلها! هذا، من ضمن دواع أخر، ما جعلني أرسل إليها قصيدة د . مبارك بشير التي كتبها، في لوحات، لمناسبة رحيل محجوب شريف، وتمنيت إليها لو تجعلها أغنية في الناس لتكون من جملة الجميلات التي هن في تذكر ومديح محجوب، الذي هو أباها بالروح كما تقول! من يومها، بدأت أنا في ملازمة أغانيها وتتبع شئون مشاغلها التي تشتغل عليها، كل أيامها، وهي في تطوير تجربتها التي تسعي بها صوب الإكتمال، وهل يمكن أن يكون هنالك إكتمالا في الفن أو في الشعر والإبداع، إلا الصعود وإلا الازدهار والنمو!

عقد بهيج من الغناء الجميل.

( بلدا هيلي أنا

دموعها دموعي أنا

أساها … أساي أنا

ضميرا … ضميري أنا

كل آمالي أنا

السلام يملأها يطلع من هنا) …

للبلد، هكذا شرعت تغنيها البلاد، تصدح بحقها وتتوله ، بوجدانها الفني وروحها، وهي تهب البلاد من ذات نفسها نكهة الأغاني فتجعلها حلية وورودا في جسد الوطن، عافية تلد وتشد من أزرها لتكون في مسيرتها البهية في جلال تجلياتها كلها، ولست أعرف، بعد، من جعل مثلها إحتفالية تخصص، بكامل الوعي، لمسيرة فنية في حقبة من الزمان عاشتها التجربة، لكأنها تستنطق التجربة نفسها لتقول قولها، سعيا لتراها هي، كيف هي ملامحها وتطورها تلك الحقبة، ثم ليراها الجمهور، شعبها الذي لأجله كانت التجربة ومشرعة لوجهه. هكذا، وسط هذا العنفوان، هكذا، شرعت حوالي مطلع أغسطس 2017م، تطلق نداء الإحتفالية، تذكرا وتأملا في مسيرتها الغنائية، عشر سنوات من الغناء، من الرهق والمقاساة والتعب الجميل، فمنحتنا أولا أغنيتها البديعة ( نغم )، أتت بكلمات مختار دفع الله، ثم استدعت، ملء قلبها، لحن والدها الراحل الموسيقار بدر الدين عجاج، فجعلتها، بعد أن زينتها بالصوت السماوي والأداء الأنيق هدية لشعبنا، فانطلعت، من بعد، فعاليات ذلك المهرجان، غير المسبوق، شيئا ما يتم إعداده وتجويده وصهره، كالجوهرة، فيقدم لذائقتنا التي هي علي قدر عال من إتقان الفهم وتذوق الجميل الفريد المبتكر من الأغاني. بأردية جديدة ملونة، وبروح الغناء المسكوب الذي وسمته بها إنطلقت سحابات الفرح في فضاءات البلاد: انطلقت مبادرة ( نغم ) أولا، بشعارها الرحيم ( بسمتكم فرحتنا )، يوم تطوعي ترفيهي كامل مع أطفال السرطان، بالموسيقي وبالغناء و … بالحب تدخل الفرحة لقلوبهم وتغني لهم، مرددة، وهم في احضان هذه المودات: ( بيكم نحن بنبقي ). ثم حلقت الأغاني في فضاء المهرجان، أغنية في أثر الأخري، فكان ما سوف يكون: العودة، حكاية الوردة والشارع، ألف نهر ونيل، غربة، أندريا، مرحبتين بلدنا حبابا، ضحكة وأخواتهن الأخريات. كنت أنا، طوال أيام المهرجان في تذكر ما قال به وردي ومحجوب في حقها، حقا ما قالا به وها هي تلامس، بمحض فنها، بقلبها وروحها وإبداعها وجدان شعبنا فتأخذ أغانيها موضعا جليلا من ثقافتنا الغنائية، هذا الوثير الأثير.

و … القادم أجمل.

آلهات الموسيقي والأغاني

سكبن الفرح مزاميرا في صوتها

أشرعن إليها النوافذ

يا مجدها

فغدا فينا وجدها

فرحا بحجم الحياة،

أكبر مما حولنا

فالأغاني الآن،

هي وجهنا !

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..