تحليل ليوم النساء المعتقلات الأحد 10 فبراير

د. أحمد عثمان
“سلمي لي على البحسو بكل نبض الأرض ديّه
و سلمي لي على البيابو الحق هدية
و سلمي لي على مهيريات شهيدن نارو حية”
عند الواحدة بعد الظهر تماما في يوم 10 فبراير 2019 بتوقيت الثورة سارت ام درمان مواكب. لم يكن الحضور و لا التنظيم مفاجئا و لا الالتزام بجدول تجمع المهنيين ، لان هذه اصبحت سمات ملازمة لحراك ناضج يسير بثقة لتحقيق اهدافه، لكن المفاجئ كان ان يلتحق احد أبناء شعبنا و هو معاق الجسد و معافى البصيرة، منطلقا من تظاهرة شخص واحد ليلحق بالمواكب و يقف امام عربة الشرطة متحديا لينتهي به المقام معتقلا ضمن قائمة الشرف، و هو الذي خرج متضامنا مع مهيريات الثورة في سجن ام درمان.
الرسالة كانت واضحة ، ان هذه الثورة اصبحت طريقة حياة لا فقط طريقة لصنع الحياة، و انه اصبح من المستحيل نزعها من قلوب الناس ، فالجماهير اصبحت اكثر ثقة بنفسها و بقدرتها على صنع المعجزات. و حسنا فعل تجمع المهنيين حين خصص اليوم للتضامن مع الكنداكات المعتقلات، لافتا بذلك النظر الى وضعهن، و وضع المعتقلين السياسيين بصفة عامة. فالمعلوم ان النظام يتمادى في الفجور في الخصومة، و يتشدد في العزل، و يشكل خطرا على معتقليه بسوء تغذيتهم، و إهمال احتياجاتهم العلاجية، بل و تعذيب بعضهم، فوق انهاكهم بالتحقيق المطول و اليائس لجمع معلومات عن تجمع المهنيين الذي نهض وسط شعبه كعنقاء تنهض من رمادها لتلتهم الحريق. كان مهما ان تصل رسالة شعبنا الى الكنداكات في المعتقل بأنهن لسن وحدهن، و ان تضامن الشعب معهن فعلا يمشي بين الطرقات لا نشاطا حقوقيا فقط، و ان ثورتهن متواصلة حتى سقوط النظام المحتضر.
واكب الموكب في ام درمان حراك في بعض الأحياء بالعاصمة، و كذلك بالاقاليم و في قرى نائية، و هذا يؤكد ان الثورة قد اصبحت هما عاما ينتج مفاعيله الداعمة للحراك حتى من خارج الجدول الذي يعده تجمع المهنيين، و هذا مهم لتشتيت جهود الأجهزة الأمنية المنهكة. كذلك ظهرت تلقائية الحراك و قدرته على انتاج شعاراته و عمقه الخلاق في سوق ام درمان ، حين ارتفع الهتاف ” الحرقو منو حرقو الكيزان” ، في تذكير بالحدث المأساوي الذي تم في الفترة الماضية، مما جعل بعض التجار يغلقون محلاتهم و يلتحقون بالموكب. و هذا يؤكد ان الموكب قد حافظ على استمرارية الحراك ، و عكس دقة تنظيمه ، و وسع من دائرة حاضنته الشعبية، و أضاف لقاموسه شعارا جديدا ناسب موقع تحركه و نجح في تعبئة قطاع من خزانه البشري الكبير.
اما من حيث مفاعيل الحراك بشكل عام، فمن الواضح ان التململ داخل القوات المسلحة، قد انتقل من مستوى الاحتجاج الفردي الذي بدأ علنيا مع النقيب الرازي، الى الاحتجاج المنظم بمستوى قاد الى اعتقال 19 ضابطا احدهم برتبة عقيد. و هذا يؤكد ان القوات المسلحة في رتبها الوسيطة و صغار ضباطها و ضباط صفها و جنودها ، تظل جزءا اصيلا من شعبها مهما كانت درجة الأدلجة التي تعرضت لها أو محاولات السيطرة التنظيمية. فهي تتأثر بالحراك الشعبي لوجود هذه الرتب المتوسطة و صغار الضباط و ضباط الصف و الجنود وسط شعبهم و عدم التحاقهم بالنظام و نخبته الطفيلية، التي الحقت جنرالاتهم بها و ربطت مصيرهم بمصيرها. و هذا يعني أن القوات المسلحة سوف تلتحق بالحراك عند اتساعه و اتخاذه خطوات حاسمة فى سبيل اسقاط السلطة، عبر ضغط منسوبيها المذكورين على قيادتها للرضوخ للشارع، او عبر تجاوز هذه القيادة بالذات.
كذلك مازال الحراك ينتج مشاريعا سياسية و مبادرات، تحاول اللحاق بمساره و تأطيره ، و اعطاؤه بعدا برامجيا من مواقع متباينة، و في هذا الإطار تأتي مبادرة مجموعة السلام و الاصلاح. و بعيدا عن التخوين و محاولات احتكار النضال التي ينتهجها البعض و دون مصادرة لحق هذه المجموعة في تقديم مبادرتها، تصح الإشارة إلى أن هذه المبادرة لم تأخذ باعلان الحرية و التغيير الذي وقعته القوى المعارضة كأساس و ان تقاطعت معه في بعض الامور ، و هي دعت إلى مرحلة انتقالية بحكومة تشرك فيها الاحزاب و القوى السياسية الكبرى دون تسمية هذه القوى و الاحزاب، و بما انها لم تتحدث عن تفكيك دولة المؤتمر الوطني و لا المحاسبة و استرداد الاموال المنهوبة بوضوح، من الممكن القول بأنها ترى إمكانية مشاركة المؤتمر الوطني كحزب كبير في حكومة المرحلة الانتقالية، و هذا ان صح يخالف اهداف الثورة جملة و تفصيلا. و بالرغم من اننا لا نشكك في مصداقية الإسلاميين المغاضبين الذين ساهموا فيها و لا نجنح الى شخصنة القضايا، الا أن ظهور واجهة أساسية للاسلام السياسي كالجزولي دفع الله، لا تبشر بإمكانية إستبعاد توظيف هذه المبادرة لتعويم المؤتمر الوطني بل و اشراكه او اشراك من يمثلونه في الحكومة الانتقالية ، و هزيمة الحراك و تصفيته بعد كل هذه التضحيات.
عموما حيوية الحراك و قوة دفعه الخلاقة ، سوف تدفع بالمزيد من المبادرات الجيدة و السيئة الى الساحة، و بما انه من المستحيل و من غير المحبذ اغلاق الباب أمام هذه المبادرات، يجب التعامل معها وفق معايير واضحة تحدد ما إذا كانت سلبية ام ايجابية. و ذلك بتحديد مدى قربها او بعدها من اعلان الحرية و التغيير، و مدى التزامها بتفكيك دولة المؤتمر الوطني و الانتقال لدولة كل المواطنين القائمة على المواطنة، و مدى التزامها بمبدأ المحاسبة و استرداد اموال السودانيين المنهوبة، لياتي بعد ذلك الحديث عن صناعها و واجهاتها و تقييم مدى جديتهم في ان يكونوا جزءا من الحراك، ام انهم يرغبون في ان يكونوا حكما عليه، أو ان يقفوا في منطقة وسطى بينه و بين النظام ليلعبوا دور الوسيط .
قصارى القول هو ان حراك اليوم كان موفقا و ناجحا و خلاقا، عزز مفهوم التضامن من باب الفعل المباشر في الشارع، و طور شعاراته و وسع من دائرة المشاركين فيه بالاستلاف من خزانه الجماهيري، و هو جزء من التراكم الذي وسع و سيوسع دائرة الاحتجاج المنظم داخل القوات المسلحة لتلاقيه في اللحظة الحاسمة لإسقاط النظام، و الذي دفع و سيدفع لظهور العديد من المبادرات و المشاريع السياسية التي يجب دوما محاكمتها وفقا لإعلان الحرية و التغيير و مدى التزامها بمبدأ تفكيك النظام و محاسبة المجرمين بتقديمهم لمحاكمات عادلة و استرداد اموال شعبنا المنهوبة، مع تقدير مدى إمكانية انضمام اصحاب هذه المبادرات و المشاريع للحراك ، و مدى رغبتهم في ان يصبحوا حكما عليه أو يلعبوا دور الوسيط بينه وبين النظام.
و قوموا لانتفاضتكم و لا تأخذكم الريب بمبادرات انتجها حراككم بل حاكموها وفقا لدستوركم و امضوا لنصركم.
موكب خيالي🔥
سقطت خلاص ي كيزان#موكب10فبراير #مدن_السودان_تنتفض #تسقط_بس #موكب_النساء_المعتقلات pic.twitter.com/IS9Jd46QtR— MūS TA FA 🥀 (@kaka_zsd) February 10, 2019
فيسبوك