السطحية الفكرية… أزمة وعي تهدد المجتمع السوداني

مهدي حامد محمدأحمد حامد*
مقدمة
في عالمٍ تتسارع فيه المعرفة وتتوسع فيه أدوات الوعي، يواجه المجتمع السوداني — مثل كثير من المجتمعات العربية — تحديًا صامتًا لكنه خطير: تآكل العمق الفكري، وسيطرة السطحية على أنماط التفكير والسلوك.
لم تعد الأزمة في غياب التعليم أو الموارد فقط، بل في تراجع قيمة الفهم الحقيقي، وتحوّل النقاش العام إلى صراعٍ من أجل الظهور لا من أجل الحقيقة.
أولًا: التعليم… من التفكير إلى التلقين
رغم ما يشهده السودان من جهود في تطوير المناهج، ما تزال العملية التعليمية تعاني من سيطرة ثقافة الحفظ والاستظهار على حساب مهارات النقد والتحليل.
فالطالب يُكافأ بما يحفظه لا بما ينتجه من فكر، مما يخلق عقلًا يخاف السؤال ويهرب من النقاش.
إن أخطر ما تواجهه المنظومة التعليمية ليس ضعف الإمكانات، بل قتل روح التساؤل داخل القاعات الدراسية، وهو ما يؤدي إلى مجتمعٍ يتبع ولا يفكر.
ثانيًا: الإعلام ووسائل التواصل… تسطيح الوعي العام
تحولت وسائل الإعلام الحديثة إلى ساحة لتغذية التافه والمثير على حساب المفيد والعميق.
فقد سيطرت ثقافة “الترند” على الذوق العام، فأصبح الاهتمام الأكبر منصبًا على الضحك والمقاطع القصيرة، بينما تم تهميش الفكر والثقافة.
بهذه الآلية، يُعاد تشكيل وعي الأجيال على نحوٍ يُفضّل الترفيه على التفكير، ويستبدل التحليل بالانفعال.
ثالثًا: أزمة القدوة الفكرية
في الماضي، كانت الساحة السودانية غنية بالمفكرين والأدباء والإعلاميين الذين شكلوا وجدان الأمة، وأسهموا في رفع منسوب الوعي العام.
أما اليوم، فقد غابت الرموز الفكرية المؤثرة، وصعدت بدلاً عنها نماذج الشهرة السريعة.
لم تعد القدوة من يصنع فكرة، بل من يجذب متابعين.
ومع غياب هذه الرموز، فقد الشباب بوصلتهم الفكرية، ووقعوا في فخ التقليد الأعمى والانبهار بالسطحي والآني.
رابعًا: المجتمع والخوف من الاختلاف
ما زال المجتمع السوداني — رغم وعيه التاريخي والثقافي — يعاني من نزعة مقاومة للمختلف والمغاير.
من يتحدث خارج السائد يُتهم بالتعالي أو “التفلسف”، وكأن التفكير النقدي جريمة اجتماعية.
هذا الخوف من التغيير يجعلنا نعيد إنتاج الأفكار نفسها جيلاً بعد جيل، في دوامةٍ من الركود المعرفي.
إن قبول التعدد والاختلاف هو أول خطوة نحو بناء مجتمعٍ صحي قادر على التطور.
خامسًا: نحو وعيٍ جديد
لا يمكن كسر دائرة السطحية إلا عبر ثورة فكرية صامتة تبدأ من الفرد.
أن يتعلم كل إنسان كيف يفكر قبل أن يتحدث، وأن يُدرك أن القراءة ليست ترفًا، بل سلاح وعي.
إن بناء وعي جديد يتطلب بيئة تشجع السؤال، وتحترم الرأي المختلف، وتعيد الاعتبار للعقل كمرجعية للحياة العامة.
خاتمة
السطحية ليست مصيرًا محتومًا، لكنها نتيجة لاختيارات متراكمة.
فحين يختار المجتمع الضحك بدل الفهم، والعاطفة بدل العقل، فإنه يختار البقاء في الظل.
النهضة لا تبدأ بالمشروعات المادية، بل بترميم العقول وإحياء قيمة التفكير.
إن المجتمعات لا تنهض بالضجيج، بل بالفهم.
* باحث مهتم بالشأن السياسي والفكري والاجتماعي
[email protected]




شكرا جزيلا على دعمكم ونتمنى أن يسهم في توعية المجتمع