استخدام الفكرة

أمير تاج السر

من العبارات التي تصادفنا كثيرا أثناء مطالعتنا للدراسات النقدية، أو مراجعات الروايات التي يكتبها البعض بثقة كبيرة، باعتقادهم أنها آراء لا تقبل النقاش، عبارة: الفكرة مستهلكة. وهي عبارة باتت في حد ذاتها مستهلكة من كثرة ما تم استخدامها.
ولو نظرنا إلى تلك الأفكار المستهلكة المعنية، لوجدنا أنها هي الأفكار التي تتمحور حولها الكتابة، لأن الحياة نفسها تتمحور حولها، ولا يمكن الخروج منها أبدا. أي قد تخطر فكرة على بال الكاتب، هي ليست فكرته ولكنها فكرة موجودة، وقد تكون غافية لبعض الوقت، ولن يكون أبدا هو أول من أيقظها من الغفوة، ووظفها كتابيا.
أي كتابة عن المدن وضجيجها مثلا، هي كتابة موجودة، أي وصف للشخصيات، هو وصف تم استخدامه منذ أن عرف الناس كيف يكتبون الأدب، وأي معالجة لموضوع حيوي كان أو غير حيوي، لن تكون سوى لموضوع قد يكون عولج من قبل. وفقط تختلف هنا نظرة الكاتب الذي يستخدم المادة، وطريقة استخدامها، والأسلوب الذي يبدو ناضجا عند البعض وغير ناضج عند البعض الآخر. وقد عددت مرة أعمالا كثيرة، وأفلاما سينمائية، نبشت بعض الأمراض المعروفة عند الناس مثل مرض السرطان، ومرض الزهايمر، والباركنسون، أو الشلل الرعاش، واختلف الأمر في طريقة المعالجة في كل نص أو فيلم، وسيأتي آخرون يتحدثون عن تلك المادة مجددا، وسنجد شيئا مختلفا بكل تأكيد.
بالنسبة للكوارث التي تحيق بالناس وعالمهم في أي مكان، مثل الحروب التي تشتعل منذ سنوات في أماكن كثيرة من الوطن العربي، وأجزاء أخرى من العالم، وباتت من خامات الكتابة الرئيسية عند مبدعي تلك الأماكن، فلن يكون ثمة فرق في استخدام الفكرة بكل تأكيد. الدمار هو الدمار في كل مكان، تشريد الآمنين من مساكنهم، والموت بلا أي ضرورة، هو في كل مكان، وتأتي هنا كيفية تناول الأحداث، وكيف تستخدم تلك المعطيات كخامة. ولو نظرنا للروايات التي استاءت من الحروب، ووصفتها بمضاعفاتها لوجدنا هذا الاختلاف العظيم، وهذا التناول الذي لونته وجهة نظر الكاتب، وجاء به أسلوبه، ومعروف اختلاف الأساليب عند الكتاب، وأيضا اختلاف المدارس الكتابية.
فهناك من يكتب بواقعية صرفة، ويسمي البيت باسمه والشارع باسمه، وبنت الجيران باسمها مثلا، هناك من يضع لافتات مغايرة في الشوارع والمحلات التجارية، أو يكتب بغرائبية، أو يطمح إلى أسطرة شخوصه، وجعلهم بعيدين تماما عن أي واقع أو حدث، ولكن قابلين أنفــسـهم لصــناعة أحداث أخرى مــوازية. ولطالما كانت ثمة متعة حقيقية في روايات الحرب، وأعني متــعــة قراءتها بعيدا عن التعاطف المحتمل مع شخـوصها. وما تزال في ذهني روايات عظيمة قرأتها في فــتـرات مخـتــلفة من حــياتي، مثل «طــبول المطر» للألـــبـاني إســمــاعيل كــاداري، و»ليلة لشبونة» للألماني إريك ماريا ريمارك، وهناك أعمال عربية تناولت الوضع السوري بكل دقة وعنفوان، وسطوع مثل أعمال خالد خليفة ومها حسن.
بالنسبة لموضوع اللجوء إلى بلاد أخرى هربا من الموت، وهو موضوع مرافق للحرب، وتوأم لها، تم استخدامه وما يزال يتم إلى الآن، فما دامت الحروب لم تسكن بعد، والتمزق هنا وهناك يسير بانتظام، فلا بد من سفر وهجرة وبحث عن أمان في بلاد أخرى قد لا تمنح الأمان بقدر ما تمنح مزيدا من عدم الأمان. هنا لن نقول لكاتب من سوريا حلق في هذا الموضوع بأسلوبه الخاص، بأنك نهبت فكرة من أحد، ولن نقول لكاتب عراقي إن الموتى والمهاجرين الذين وصفتهم في نصك قد سبق وصفهم في نصوص أخرى. نعم تتشابه معطيات الأسى كما ذكرت ولكن يبقى الاختلاف الذي لا بد أن يحدث في كل نص يتناول القضية.
ولا بد أن أذكر هنا، أن ثمة نصوصا وسط ما يكتب في كل موضوع، تبدو ضعيفة إذا ما قورنت بنصوص أخرى، ولكن هذه سمة الكتابة كما نعرف، هناك من يبدع وهناك من يبتعد بشدة عن الإبداع. حتى القراءة في رأيي فيها قارئ مبدع وقارئ يسير وسط جمهرة قراء آخرين، يدلي برأيهم وليس برأي هو من ابتكره ويعتقد فيه. وبالطبع توجد في ذهني روايات كثيرة عن تلك المسألة الحيوية الآن في عالمنا، وأعني مسألة التشرد، وأذكر بكل فخر رواية «مترو حلب» للسورية مها حسن، هي رواية عن الهجرة، والأسى داخل الهجرة، وحلم العودة إلى الجذور، وأظنها كتبت بإتقان، وكانت تستحق مكانة بارزة في الكتابة العربية، وسط ما نراه الآن من ترنحات كثيرة تطال تلك الكتابة، وتؤذن بقرب انحسار فن الرواية عامة، من دون أن يعمر كثيرا، وهذا موضوع آخر.
بالنسبة لفقرة الإرهاب، أهم الفقرات التي تتسكع في العالم كله منذ أعوام، ولا سبيل لإلغائها، فهي فقرة حيوية بالنسبة للكتابة ولا بد من وجود من يتناولها بحنكة ومن يتناولها بسطحية، ولكن في الإجمال نحصل على نصوص يمكن وصفها بالنصوص الفاضحة للإرهاب والساعية لإنهائه.
هنا لا بد من ذكر التطرف، ومن ينساقون وراء التطرف بلا أي وعي، ومن يجندون أنفسهم خدما للأذى بلا ضرورة، ومن يموتون بلا ضرورة أيضا، وفقط لأن هناك من تحول إلى أداة قتل جبارة بلا وجه حق. لقد تحدث كثيرون حتى في المقالات الصحافية عن الإرهاب، منوهين للتسامح الديني، وأن أي دين موجود، لم يكن يوما داعيا للإرهاب بقدر دعوته للإنسانية، وقد عشنا كلنا في أزمان التسامح الديني تلك، حين لم تكن أي فكرة دخيلة سائدة، وما زلت أتذكر جيرانا من عقائد مختلفة، كانوا أهلا حقيقيين، ولدرجة أننا لم نكن نعرف عقائدهم أبدا.
هنا أيضا لن نقول لأحد أنك نهبت فكرة أحد أو استهلكت فكرة كتبها أحد، فالفكرة كما قلت، موجودة، وحية، ويسقط ضحايا لها في كل يوم، وبالتالي نص روائي في كل يوم، وأي مكان. قد يتشابه الضحايا الذين يسقطون في فرنسا مع أولئك الذين يسقطون في الشام أو ليبيا أو اليمن أو أمريكا، وقد يتشابه القتلة أيضا ويتشابه السلاح، وفقط يبقى اختلاف تناول الحقائق، وكيفية جعلها نصوصا روائية.
إذن الكاتب عموما هو رهين أفكار الدنيا ولا وجود للتجديد في الفكرة، فقط تبقى البصمة الخاصة به وكونه كاتبا ناضجا أو مشروع كاتب أو لا كاتب حتى. وترديد العبارات بلا توغل في عمقها، يضر كثيرا بالكتابة ولا يفيدها في شيء، وعلى الذين يتعرضون للكتب، أن يضيئوها بحيادية تامة وبوعي، بوصفهم قراء مبدعين. أفرح كثيرا حين أجد قارئا توغل في النص وأضاءه، وهؤلاء بالطبع موجودون في زحام القراءة الذي يشبه كثيرا زحام الكتابة. لا ضرورة أبدا للتعرض لما لا نعرفه، وشخصيا أبتعد عن ذلك، ولا أكتب إلا ما أعتقد أنني أعرفه.

القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..