صناعة الجهل

في نهاية العهد الإنجليزي كان هناك أحد النُظَّار وكان رجلاً متنفذاً وقابضاً، كان يعبئ الأهالي ضد تعليم أبنائهم ويصنع الشائعات التي تنفر الآباء من التعليم، وقد وصلت به الصفاقة أن جمع نفراً من المؤثرين في الرأي العام، وطلب منهم أن ينصحوا الناس بعدم إرسال أبنائهم للمدارس حفاظاً على (رجولتهم) وأنه يعلم تماماً أن الطلاب في الداخليات يفعلون المنكرات والفواحش ما ظهر منها وما بطن.. والحكاية كلها أن السيد الناظر يريد مواطنين كالقطيع ويعلم تماماً بفكره (الثاقب) وذكائه (الخارق) أن انتشار التعليم والمعرفة بين رعاياه سيضع حداً لمجده الذي بناه على قاعدة احتكار الحقيقة كلها، وغذَّاه بجهل الناس والتعتيم وتكميم الأفواه وإشاعة الجهل.. ليس ذلك الناظر وحده بل أن كثيراً من النُظَّار والعمد بنوا أمجادهم وسلطانهم واستأثروا بالموارد والممتلكات بعد استغلال جهل الناس والعمل على محاربة التعليم والمعرفة، وحتى الذين أقيلت أمامهم العثرات والعراقيل وواصلوا تعليمهم وقتها ما كان لهم أن يفعلوا لولا أمِن جانبهم العمد والنظار.. ويمكن أن نذهب أكثر من ذلك، ونُذكِّر بالحرب الشعواء التي قادها رجال الدين في أوروبا? حينما كانوا أعظم مكاناً من الحكام- على العلم والتعليم ووسائل المعرفة، وأوروبا المستنيرة التي تبهرنا الآن بكل ما هو جميل في مجال السياسة والحريات والتداول السلمي السلس للسلطة والممارسة الديمقراطية الراشدة وشفافية الحكم لم تصل إلى هذا الإنجاز الكبير إلا بعد أن حاربت (التجهيل) و(التعتيم) واحتكار الحقيقة وتعبئة الناس واقتيادهم إلى نحو ما يريد المتنفذون من رجال الكنيسة لخدمة مصالحهم الخاصة ومنافعهم الذاتية، فلا شك أن إشاعة المعرفة والتنوير ورفع حالة الوعي بين الناس سيكون هو الأساس لأي بناء وطني ونهضة واستقرار حقيقي ينعم فيه الجميع بالعدالة الإجتماعية وتحقيق العدل والمساواة.

أرأيت لو أن الصحافة اتجهت نحو تعزيز الوعي السياسي والاجتماعي لدى المواطن، وأعطت مساحة واسعة لمكافحة استغلال البسطاء، وصبت جل تركيزها على التوعية بأساليب الغش والنفاق، ووضعت مهمة خلق رأي عام مستنير وراسخ القناعات في أعلى سلم الأولويات، أريتها لو أنها فعلت كل ذلك بتركيز شديد هل تحتاج إلى معين في مسيرة بناء الدولة ومشروع السودان النهضوي الذي لا تزال تشرئب له الأعناق وتتوق له الأنفس وتهفو له قلوب الصادقين.

النخب السياسية بطبيعة الحال ? سواء أكانت حاكمة أو معارضة ? تريد رأياً عاماً غير مستنير تقتاده كالقطيع لتحقيق غايات وأهداف الساسة تريده أجوف (تعبيه) بالكلام متى ما تريد وتفرغ شحناته غير المرغوب فيها وقتما شاءت، لذلك ليس مطلوباً من النخب رفع درجة الوعي وخلق رأيٍّ عامٍ مستنير لأن هذا الأمر يتقاطع في محطات كثيرة مع أغراض السياسة وأجندتها غير المنظورة، ولكن بالقطع هو الدور المطلوب بشدة من الإعلام وما لم يكن هناك رأي عام مستنير وحالة وعي لن يكون هناك مشروع أمة ولن تكون هناك تنمية ولا استقرار ولا بناء وطني.. اللهم هذا قسمي فيما أملك.
الصيحة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..