من مذكرات البريطانية إيزماي توماس

من مذكرات البريطانية إيزماي توماس
تحرير: جراهام توماس Graham Thomas
عاشت إيزماي توماس (1920 ? 1995م) تلك السيدة البريطانية (الويلزية) سنوات من عمرها في السودان، فقد قدمت للبلاد مع زوجها جراهام توماس عام 1950م، وعملت في البدء في سلك التدريس في كلية المعلمات بأمدرمان، ثم انتقلت للعمل كمفتشة للتعليم في إدارة تعليم البنات والمرأة في مديرية الخرطوم.
نشر زوجها جراهام توماس مذكراتها في كتاب صدر في عام 2000م بعنوان ” Sudan Journal of Ismay Thomas” عن دار النشر البريطانية The Book Guild Ltd, BG)). وإيزماي وزوجها من كبار أنصار حزب العمال، فلا غرو أن قدم للكتاب اللورد جيمس كالاهان (زعيم حزب العمال ورئيس الوزارة البريطانية بين عامي 1976 و1979م) ولورد روي جنكيز (سياسي من ويلز، وأحد قادة حزب العمال في سبعينات القرن الماضي). وأشاد كالاهان بحرص الكاتبة على إقامة علاقة صداقة وتواصل اجتماعي مع قادة العمل السياسي والاجتماعي والديني في السودان، وكذلك لدورها المهم في نشر تعليم البنات في زمن كانت تمنع كثير من القيود الاجتماعية والأعراف القبيلة فيه ذلك التعليم. وسجل جنكيز أيضا تقديره للكاتبة لما قامت به من عمل رائد في مجال تعليم البنات في السودان وكينيا ومصر، وأبدى إعجابه بعين الكاتبة الفاحصة (لعله يقصد الشديدة النقد!)، واهتمامها بتسجيل أدق التفاصيل عن جوانب كثيرة من الحياة الثقافية والاجتماعية في سنوات ما سماه العهد “شبه الاستعماري semi colonial”.
وفي هذا الجزء نعرض لبعض ما جاء هذا الكتاب من ملاحظاتها ومشاهداتها عن عطلة قامت بها مع زوجها إبان اقامتهما بالسودان إلى مصر
6 مايو
بعد أن أحكمنا إغلاق أبواب منزلنا، وتركنا قطننا تحت رحمة خادمنا الشفوق لثلاثة شهور قادمة، تحركنا نحو محطة السكة حديد في سيارة صديقنا عبد الفاتح المغربي، والذي عرض علينا مشكورا توصيلنا للمحطة بعربته، بعد أن هبطت بطارية سيارتنا وانثقبت احدى إطاراتها. عبد الفتاح رجل استثنائي رائع، ويحمل شخصيتين في جسد واحد، فهو أوربي جدا، حتى في شكله وهيئته. غير أن نفسه مملوءة بالغطرسة والغرور العربي التقليدي. وليس أدل على ذلك مما قاله لنا ذات مرة حين أتينا معه على ذكر أحد المسئولين السودانيين والذي ترقى في الوظائف بالسكة حديد حتى بلغ مرتبة عالية، إذ قال إن ذلك الموظف قد نجح نجاحا منقطع النظير بالقياس لأهله والذين كانوا عبيدا، وإلى وقت قريب.
وشرفنا في المحطة بتوديع السيد الدرديري محمد عثمان لنا في المحطة وتمنياته لنا بإجازة سعيدة (وفسر وجوده في المحطة لي ما لاحظته آنفا من فتح الأبواب المزدوجة الرئيسة للمحطة). كذلك سعدنا بسفر السيد عبد الرحمن عابدون (وكيل الري) معنا في نفس القطار، إذ كان مسافرا لبربر لزيارة مزرعته هنالك. وكان معنا أيضا في نفس الرحلة يوسف بدري، ناظر مدرسة الأحفاد الثانوية، وابن الشيخ المشهور بابكر بدري والذي يبلغ عمره الآن 97 عاما، ولا يزال يعمل جاهدا من أجل تطوير التعليم. وكان يوسف بدري يعمل كيميائيا (أي صيدليا) في الحكومة السودانية حتى عام 1943م، ثم استقال من خدمة الحكومة ليحل محل والده في إدارة مدرسة الأحفاد، بعد أن ضعفت صحته. ويقول يوسف وهو يضحك ضحكته المعدية تلك إنه الآن يخشى على صحته هو من أعباء إدارة مدارس الأحفاد. وليوسف شخصية قوية. وعرف عنه قبوله في مدرسة الأحفاد للطلاب المفصولين من المدارس الحكومية بسبب قيامهم بإضرابات أو مظاهرات أو لعدم الانضباط، ولكن بشرط قبولهم بأن ينالوا من يده عشرين جلدة بالسوط قبل التسجيل. وكان الآباء يسارعون بقبول ذلك العرض على الفور. ولا يفكر أي واحد من هؤلاء الطلاب المجلودين في الاضراب أو الاخلال بالنظام بعد ذلك العقاب الاستباقي الرادع. وخلال دردشتنا معه ذكر لنا مثلا عربيا ينصح القاضي بأنه إذا اتاه أحد الخصمين وقد فقئت عينه فلا يحكم له، فربما أتى خصمه وقد فقئت عيناه.
ومرت سريعا ساعات قطع القطار لصحراء الشمالية القاحلة بسبب تلك الرفقة الرائعة. وما أن بدأت الشمس في الغروب حتى ظهرت ألوان مختلفة رائعة في السماء. فذهبنا جميعا إلى غرفة الطعام لتناول المشروبات المرطبة ومناقشة الوضع السياسي ومستقبل البلاد والموضوعات الأخرى، حتى أرخى الليل سدوله فرجعنا لعربات النوم بعد أن ودعنا عبدون عند نزوله في بربر. وفي أتبرا حدثت حريقة في القطار أخرت سفرنا.
7 مايو
وفي صباح اليوم التالي كان قطارنا ما زال يشق الصحراء الممتدة، وهو يمضي شمالا ويقترب من النيل. ولاحت لنا من على البعد، ووسط التلال الصخرية البديعة الأشكال، صفوف من شجيرات صحراوية في وسط قرى صغيرة، ورأينا أيضا جمال تسير الهوينى متجهة نحو حلفا.
تأخر قطارنا كثيرا عن موعده، ولم نبلغ المحطة الأخيرة إلا عند الرابعة والنصف. ثم أنهينا الإجراءات الرسمية المعتادة بنجاح وانتقلنا للباخرة المنتظرة على الشاطئ. وبما أن منسوب النيل كان عاليا جدا في تلك الأيام، فقد تمكنا من السفر من حلفا مباشرة لمصر دون الذهاب لفرص كما فعلنا في زيارة سابقة. وعند شاطئ النيل تجمع عدد كبير من النسوة، وبدين كالغربان السود وهن في عباءتهن السوداء الصدئة، وطفق الحمالون يحملون أمتعة الركاب للباخرة وما ربط معها من مقطورات. وتلقانا بالتحية والترحاب تاجر حلفاوي ثري اسمه بيربس قرني، وقام بتعريفنا بشيخ المنطقة وبشقيقه الذي كان يماثله في الطول. وبدا زوجي جراهام (وطوله ست أقدام) بجنبهما قزما قصيرا. كان أولئك الرجال غاية في الظرف والمجاملة، وأعطيانا قبل مغادرتنا رسائل لرجل مهم في الشلال ليرينا بعض معالم أسوان.
غادرنا وادي حلفا عند الثامنة مساء على ظهر تلك الباخرة التي تحيط بها الصنادل الصغيرة، وبدت لنا كدجاجة وقورة تقود صغارها من الفراخ الصغيرة. وكانت الباخرة مكتظة بالركاب، ولككنا لم نجد في الدرجة الأولى غير بعض المبشرين الأمريكيين، وثلاثة بريطانيين، مع عدد من الأرمن الأغاريق في طريق عودتهم لبلادهم في عطلتهم السنوية.
وعند الثانية والنصف صباحا أيقظتنا أصوات الركاب العالية، فنهضنا من نومنا لنجد أننا قد وصلنا معبد “ابو سمبل” فنهضنا لنمتع ناظرينا ? مرة أخرى- بمنظره البديع. غير أن كل تلك الجلبة وصفارات الباخرة لم توقظ الخفير (فلم يضئ المكان) فقنعنا برؤية المعبد تحت ضوء القمر. ونزلنا من الباخرة وتسلقنا المنحدرات الرملية لنقرب من بوابات المعبد. وأبرز لنا ضوء القمر تمثال زوجة رمسيس الثاني بأكبر مما هو في الحقيقة بينما اختفى عن أنظارنا زوجها في الضباب. وعدنا أدراجنا واستلقينا على سريرنا ذي الطابقين.
8 مايو
استيقظنا في صباح يوم لطيف النسيم. وكان من الممتع الجلوس على الكراسي خارج الكابينة ومراقبة الباخرة وهو تشق متمهلة عباب النهر العتيق، وتمر أمامنا مناظر الأشجار وقد غمرتها المياه ولا يظهر منها غير رؤوسها، والشاطئ الرملي الناعم الذي ما طمثته أقدام بشر.
ومن أغرب ما سمعنا هذا اليوم قصة رواها أحد رفقاء السفر البريطانيين عن موظف بريطاني متقاعد في عهد بيل كلارك (والذي سبق له العمل مفوضا في بورتسودان، وعمل قبل ذلك باشمفتشا لأم درمان). كان بيل رجلا اجتماعيا مغرما بإقامة الحفلات، فأقام حفلا ليليا ضخما في داره لوداع ذلك البريطاني المتقاعد. ويبدو أن شهود الحفل كانوا قد أفرطوا في شرب الخمر في ذلك الحفل الذي امتد لساعات الفجر الأولى، حين كان من المقرر سفر ذلك الرجل المتقاعد من مطار الخرطوم، والذي كان قد أصدر أوامر مشددة للخدم لإيقاظه قبل ساعات كافية من إقلاع الطائرة حتى لا تفوته تلك السفرية. غير أن أولئك الخدم أصيبوا بالفزع عند اكتشافهم وهم يحملون أقداح الشاي للرجل في الصباح الباكر أنه ليس موجودا بالبيت. وتم استدعاء بيل كلارك على عجل وبدأت رحلة البحث عن الضيف المختفي. وبالبحث في أرجاء داره، اكتشف كلارك أن حمامه يعبق بالروائح الفاخرة الغالية التي كان يشتريها ويدخرها ليقدمها هدايا لأصدقائه. واكتشف أن “أحد” ضيوف حفلة وداع الرجل المتقاعد قد أفرغ كل محتويات علب عطوره الفاخرة في الماء الذي استحم به في حوض الحمام. وأكتشف كذلك خلو إسطبله من الخيول. وبعد محادثات هاتفية عديدة ومستعجلة بانت الحقيقة، وهي أن ضيف شرف الحفل وصل إلى المطار ممتطيا لجواد الباشمفتش، وحاملا لأمتعته الكثيرة على ظهور بقية الجياد في شكل قافلة صغيرة.
9 مايو
وصلنا الشلال عند الثامنة صباحا، وهبطنا من الباخرة لنقابل صاحب بيربس قرني، والذي وضع أمتعتنا في عربة أقلتنا لسد اسوان. إنه تحفة هندسية رائعة. وكان الطريق إليه يمر بحديقة بهيجة تسمع منها هدير المياه المتدفقة قبل أن ترى زبد رغوة المياه المتدفقة. تجولنا في أنحاء السد، ومنه أخذنا لمشاهدة الشلالات. وعلى الجزر المتناثرة حول الشلالات رأينا قصور الباشوات التي يغشونها في فصل الشتاء. وأشار مرافقنا إلى أحد تلك القصور وأخبرنا أنه كان بيتا لكيتشنر، وهو يستخدم الآن كبيت ضيافة حكومي. لم يفت علينا ملاحظة أن المدينة نفسها متسخة قذرة وتصيب المرء بالكآبة. وقمنا بزيارة دار الحاكم غير أنه لم يكن موجودا حينها. ولا يمكنك أن تصدق حالة الفوضى التي رأيناها في مكاتب الحكومة إلا بعد إن تشاهدها بأم عينك. وعند الخامسة مساء تحركنا صوب الأقصر، والتي وصلناها وقت العشاء في الفندق.
وفي اليومين التاليين قمنا بزيارة وادي الملوك ومعابد توت عنخ آمون ورمسيس الثاني والكرنك وغيرها من المعابد. وبعد ذلك غادرنا الأقصر على ظهر القطار الليلي.
12 مايو
وصلنا القاهرة صباح اليوم في حوالي الساعة الثامنة صباحا حيث كان في استقبالنا مصطفى أبو العلا، والذي أخذنا في سيارته الأمريكية (بويك) إلى فندق سميراميس. كانت هنالك بعض المشاكل المتعلقة بتذكرتينا، غير أن مصطفى، وبالتعاون مع ضابط شرطة بالغ الأناقة، قام بتسوية الأمر في لحظات. وأخذنا إلى جناح في ذلك الفندق الفخم يطل على النيل. وبعد الاستحمام جلسنا في الشرفة نحتسي القهوة. وقابلنا في تلك الشرفة واحدا من أغرب الشخصيات السودانية التي صادفناها في سنواتنا بالسودان، اسمه مطر (المقصود هو الأستاذ أحمد حسن مطر، 1904 ? 1985م. المترجم): رجل منغولي الشكل، يرتدي سترة (بدلة) سوداء مخططة باللون الأبيض، وقميص سترة أنيق، وربطة عنق وجوارب، وقدم لنا نفسه على أنه صحفي في المكسيك، والتي لجأ إليها بعد نفيه من السودان بسبب نشاطه السياسي. كان مطر يجسد بالنسبة لي غرور الرجل الصغير الذي لا يكف عن تضخيم ما قام به من أدوار في الحياة، وعن المبالغة في تقريظ نفسه، والافراط في إظهار أهميته وصداقته لذوي الشأن والحيثية من قادة مصر. ويبدو لي أنه من الذين يتلقون معاشا من مصر (تميل الكتابة في سائر أجزاء الكتاب للنقد الشخصي غير المؤسس، ولإطلاق الأحكام الجزافية دون تثبت. المترجم).
وبعد قضاء الصباح في المتحف تناولنا طعام الغداء في مطعم كورسال، ثم أخذنا قسطا من الراحة توجهنا بعدها لمنطقة الأهرامات لتناول الشاي في مينا هاوس. وبعد ذلك تناولنا طعام عشاء ممتاز في سانت جيمس، حيث يستطيع تناول طعامه بينما يشاهد فيلما سينمائيا، وكان ذلك بدعوة كريمة ? كما هي العادة – من مصطفى أبو العلا. وفي ذلك العشاء قابلنا إبراهيم جبريل والذي كان في بحبوحة من العيش والترف في القاهرة، لا ريب على حساب الحكومة المصرية. ويجب أن أعترف هنا بشعوري بالغثيان عندما أتذكر الحالة البائسة التي ترك فيها الرجل عائلته في الخرطوم (هنا أيضا تطلق أحكاما ليس من دليل على صحتها، خاصة ضد الاتحاديين والختمية، إذ يبدو أن عواطفها كانت مع الطائفة التي تقف في الجانب الآخر من الغدير. المترجم).
13 مايو
قضينا صباح ذلك اليوم في البحث عن المتحف الإسلامي في القاهرة. وبعد جهد جهيد عثرنا على ما سميته “سندريلا المتاحف”. وسعدنا جدا بمشاهدة ما فيه من كنوز ونفائس وغرف سرية.
وتناولنا طعام الغداء في قاردن سيتي في شقة سيدة ذكية جميلة هي فوزية مصطفى أبو العلا، وهي شقة بالغة الفخامة والبهاء. وكانت فوزية سعيدة بالاختلاط بأناس في سن الشباب. واتفقنا على اللقاء في ذات اليوم للذهاب لفندق قصر هيوبلوس. ثم شاهدنا قصر الأميرة ناريمان وأماكن أخرى. وعدنا لفندقنا استعدادا للعشاء مع مصطفى أبو العلا في سانت جيمس. وبعد العشاء ذهبنا للسهر في أوبريج الهرم. وكانت سهرة حلوة جدا في أوساط الطبقة المصرية البالغة الثراء والواسعة الشهرة. وكان هنالك بالقرب من طاولتنا الياس باشا، وهو من بطانة الملك فاروق، وكان في تلك الليلة يحتفل بإطلاق السلطات لسراحه من السجن بداعي المرض! وكان الباشا يقذف بمئات الجنيهات يمنة ويسرى، خاصة عند نزول الراقصة الشرقية سامي جبال (لعل الكاتبة تقصد سامية جمال. المترجم).
وردت بعض الأخطاء في النص المترم السابق. وفيما يلي النص المصحح
من مذكرات البريطانية إيزماي توماس
تحرير: جراهام توماس
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
عاشت إيزماي توماس (1920 ? 1995م) تلك السيدة البريطانية (الويلزية) سنوات من عمرها في السودان، فقد قدمت للبلاد مع زوجها جراهام توماس عام 1950م، وعملت في البدء في سلك التدريس في كلية المعلمات بأمدرمان، ثم انتقلت للعمل كمفتشة للتعليم في إدارة تعليم البنات والمرأة في مديرية الخرطوم.
نشر زوجها جراهام توماس مذكراتها في كتاب صدر في عام 2000م بعنوان ” Sudan Journal of Ismay Thomas” عن دار النشر البريطانية The Book Guild Ltd, BG)). وإيزماي وزوجها من كبار أنصار حزب العمال، فلا غرو أن قدم للكتاب اللورد جيمس كالاهان (زعيم حزب العمال ورئيس الوزارة البريطانية بين عامي 1976 و1979م) ولورد روي جنكيز (سياسي من ويلز، وأحد قادة حزب العمال في سبعينات القرن الماضي). وأشاد كالاهان بحرص الكاتبة على إقامة علاقة صداقة وتواصل اجتماعي مع قادة العمل السياسي والاجتماعي والديني في السودان، وكذلك لدورها المهم في نشر تعليم البنات في زمن كانت تمنع كثير من القيود الاجتماعية والأعراف القبيلة فيه ذلك التعليم. وسجل جنكيز أيضا تقديره للكاتبة لما قامت به من عمل رائد في مجال تعليم البنات في السودان وكينيا ومصر، وأبدى إعجابه بعين الكاتبة الفاحصة (لعله يقصد الشديدة النقد!)، واهتمامها بتسجيل أدق التفاصيل عن جوانب كثيرة من الحياة الثقافية والاجتماعية في سنوات ما سماه العهد “شبه الاستعماري semi colonial”.
وفي هذا الجزء نعرض لبعض ما جاء هذا الكتاب من ملاحظاتها ومشاهداتها عن عطلة قامت بها مع زوجها إبان اقامتهما بالسودان إلى مصر
6 مايو
بعد أن أحكمنا إغلاق أبواب منزلنا، وتركنا قططنا تحت رحمة خادمنا الشفوق لثلاثة شهور قادمة، تحركنا نحو محطة السكة حديد في سيارة صديقنا عبد الفاتح المغربي، والذي عرض علينا مشكورا توصيلنا للمحطة بعربته، بعد أن هبطت بطارية سيارتنا وانثقبت احدى إطاراتها. عبد الفتاح رجل استثنائي رائع، ويحمل شخصيتين في جسد واحد، فهو أوربي جدا، حتى في شكله وهيئته. غير أن نفسه مملوءة بالغطرسة والغرور العربي التقليدي. وليس أدل على ذلك مما قاله لنا ذات مرة حين أتينا معه على ذكر أحد المسئولين السودانيين والذي ترقى في الوظائف بالسكة حديد حتى بلغ مرتبة عالية، إذ قال إن ذلك الموظف قد نجح نجاحا منقطع النظير بالقياس لأهله والذين كانوا عبيدا، وإلى وقت قريب.
وشرفنا في المحطة بتوديع السيد الدرديري محمد عثمان لنا في المحطة وتمنياته لنا بإجازة سعيدة (وفسر وجوده في المحطة لي ما لاحظته آنفا من فتح الأبواب المزدوجة الرئيسة للمحطة). كذلك سعدنا بسفر السيد عبد الرحمن عابدون (وكيل الري) معنا في نفس القطار، إذ كان مسافرا لبربر لزيارة مزرعته هنالك. وكان معنا أيضا في نفس الرحلة يوسف بدري، ناظر مدرسة الأحفاد الثانوية، وابن الشيخ المشهور بابكر بدري والذي يبلغ عمره الآن 97 عاما، ولا يزال يعمل جاهدا من أجل تطوير التعليم. وكان يوسف بدري يعمل كيميائيا (أي صيدليا) في الحكومة السودانية حتى عام 1943م، ثم استقال من خدمة الحكومة ليحل محل والده في إدارة مدرسة الأحفاد، بعد أن ضعفت صحته. ويقول يوسف وهو يضحك ضحكته المعدية تلك إنه الآن يخشى على صحته هو من أعباء إدارة مدارس الأحفاد. وليوسف شخصية قوية. وعرف عنه قبوله في مدرسة الأحفاد للطلاب المفصولين من المدارس الحكومية بسبب قيامهم بإضرابات أو مظاهرات أو لعدم الانضباط، ولكن بشرط قبولهم بأن ينالوا من يده عشرين جلدة بالسوط قبل التسجيل. وكان الآباء يسارعون بقبول ذلك العرض على الفور. ولا يفكر أي واحد من هؤلاء الطلاب المجلودين في الاضراب أو الاخلال بالنظام بعد ذلك العقاب الاستباقي الرادع. وخلال دردشتنا معه ذكر لنا مثلا عربيا ينصح القاضي بأنه إذا اتاه أحد الخصمين وقد فقئت عينه فلا يحكم له، فربما أتى خصمه وقد فقئت عيناه.
ومرت سريعا ساعات قطع القطار لصحراء الشمالية القاحلة بسبب تلك الرفقة الرائعة. وما أن بدأت الشمس في الغروب حتى ظهرت ألوان مختلفة رائعة في السماء. فذهبنا جميعا إلى غرفة الطعام لتناول المشروبات المرطبة ومناقشة الوضع السياسي ومستقبل البلاد والموضوعات الأخرى، حتى أرخى الليل سدوله فرجعنا لعربات النوم بعد أن ودعنا عبدون عند نزوله في بربر. وفي أتبرا حدثت حريقة في القطار أخرت سفرنا.
7 مايو
وفي صباح اليوم التالي كان قطارنا ما زال يشق الصحراء الممتدة، وهو يمضي شمالا ويقترب من النيل. ولاحت لنا من على البعد، ووسط التلال الصخرية البديعة الأشكال، صفوف من شجيرات صحراوية في وسط قرى صغيرة، ورأينا أيضا جمالا تسير الهوينى متجهة نحو حلفا.
تأخر قطارنا كثيرا عن موعده، ولم نبلغ المحطة الأخيرة إلا عند الرابعة والنصف. ثم أنهينا الإجراءات الرسمية المعتادة بنجاح وانتقلنا للباخرة المنتظرة على الشاطئ. وبما أن منسوب النيل كان عاليا جدا في تلك الأيام، فقد تمكنا من السفر من حلفا مباشرة لمصر دون الذهاب لفرص كما فعلنا في زيارة سابقة. وعند شاطئ النيل تجمع عدد كبير من النسوة، وبدين كالغربان السود وهن في عباءتهن السوداء الصدئة، وطفق الحمالون يحملون أمتعة الركاب للباخرة وما ربط معها من مقطورات. وتلقانا بالتحية والترحاب تاجر حلفاوي ثري اسمه بيربس قرني، وقام بتعريفنا بشيخ المنطقة وبشقيقه الذي كان يماثله في الطول. وبدا زوجي جراهام (وطوله ست أقدام) بجنبهما قزما قصيرا. كان أولئك الرجال غاية في الظرف والمجاملة، وأعطيانا قبل مغادرتنا رسائل لرجل مهم في الشلال ليرينا بعض معالم أسوان.
غادرنا وادي حلفا عند الثامنة مساء على ظهر تلك الباخرة التي تحيط بها الصنادل الصغيرة، وبدت لنا كدجاجة وقورة تقود صغارها من الفراخ الصغيرة. وكانت الباخرة مكتظة بالركاب، ولكننا لم نجد في الدرجة الأولى غير بعض المبشرين الأمريكيين، وثلاثة بريطانيين، مع عدد من الأرمن الأغاريق في طريق عودتهم لبلادهم في عطلتهم السنوية.
وعند الثانية والنصف صباحا أيقظتنا أصوات الركاب العالية، فنهضنا من نومنا لنجد أننا قد وصلنا معبد “ابو سمبل” فنهضنا لنمتع ناظرينا ? مرة أخرى- بمنظره البديع. غير أن كل تلك الجلبة وصفارات الباخرة لم توقظ الخفير (فلم يضئ المكان) فقنعنا برؤية المعبد تحت ضوء القمر. ونزلنا من الباخرة وتسلقنا المنحدرات الرملية لنقرب من بوابات المعبد. وأبرز لنا ضوء القمر تمثال زوجة رمسيس الثاني بأكبر مما هو في الحقيقة بينما اختفى عن أنظارنا زوجها في الضباب. وعدنا أدراجنا واستلقينا على سريرنا ذي الطابقين.
8 مايو
استيقظنا في صباح يوم لطيف النسيم. وكان من الممتع الجلوس على الكراسي خارج الكابينة ومراقبة الباخرة وهي تشق متمهلة عباب النهر العتيق، وتمر أمامنا مناظر الأشجار وقد غمرتها المياه ولا يظهر منها غير رؤوسها، والشاطئ الرملي الناعم الذي ما طمثته أقدام بشر.
ومن أغرب ما سمعنا هذا اليوم قصة رواها أحد رفقاء السفر البريطانيين عن موظف بريطاني متقاعد في عهد بيل كلارك (والذي سبق له العمل مفوضا في بورتسودان، وعمل قبل ذلك باشمفتشا لأم درمان). كان بيل رجلا اجتماعيا مغرما بإقامة الحفلات، فأقام حفلا ليليا ضخما في داره لوداع ذلك البريطاني المتقاعد. ويبدو أن شهود الحفل كانوا قد أفرطوا في شرب الخمر في ذلك الحفل الذي امتد لساعات الفجر الأولى، حين كان من المقرر سفر ذلك الرجل المتقاعد من مطار الخرطوم، والذي كان قد أصدر أوامر مشددة للخدم لإيقاظه قبل ساعات كافية من إقلاع الطائرة حتى لا تفوته تلك السفرية. غير أن أولئك الخدم أصيبوا بالفزع عند اكتشافهم وهم يحملون أقداح الشاي للرجل في الصباح الباكر أنه ليس موجودا بالبيت. وتم استدعاء بيل كلارك على عجل وبدأت رحلة البحث عن الضيف المختفي. وبالبحث في أرجاء داره، اكتشف كلارك أن حمامه يعبق بالروائح الفاخرة الغالية التي كان يشتريها ويدخرها ليقدمها هدايا لأصدقائه. واكتشف أن “أحد” ضيوف حفلة وداع الرجل المتقاعد قد أفرغ كل محتويات علب عطوره الفاخرة في الماء الذي استحم به في حوض الحمام. وأكتشف كذلك خلو إسطبله من الخيول. وبعد محادثات هاتفية عديدة ومستعجلة بانت الحقيقة، وهي أن ضيف شرف الحفل وصل إلى المطار ممتطيا لجواد الباشمفتش، وحاملا لأمتعته الكثيرة على ظهور بقية الجياد في شكل قافلة صغيرة.
9 مايو
وصلنا الشلال عند الثامنة صباحا، وهبطنا من الباخرة لنقابل صاحب بيربس قرني، والذي وضع أمتعتنا في عربة أقلتنا لسد اسوان. إنه تحفة هندسية رائعة. وكان الطريق إليه يمر بحديقة بهيجة تسمع منها هدير المياه المتدفقة قبل أن ترى زبد رغوة المياه المتدفقة. تجولنا في أنحاء السد، ومنه أخذنا لمشاهدة الشلالات. وعلى الجزر المتناثرة حول الشلالات رأينا قصور الباشوات التي يغشونها في فصل الشتاء. وأشار مرافقنا إلى أحد تلك القصور وأخبرنا أنه كان بيتا لكيتشنر، وهو يستخدم الآن كبيت ضيافة حكومي. لم يفت علينا ملاحظة أن المدينة نفسها متسخة قذرة وتصيب المرء بالكآبة. وقمنا بزيارة دار الحاكم غير أنه لم يكن موجودا حينها. ولا يمكنك أن تصدق حالة الفوضى التي رأيناها في مكاتب الحكومة إلا بعد إن تشاهدها بأم عينك. وعند الخامسة مساء تحركنا صوب الأقصر، والتي وصلناها وقت العشاء في الفندق.
وفي اليومين التاليين قمنا بزيارة وادي الملوك ومعابد توت عنخ آمون ورمسيس الثاني والكرنك وغيرها من المعابد. وبعد ذلك غادرنا الأقصر على ظهر القطار الليلي.
12 مايو
وصلنا القاهرة صباح اليوم في حوالي الساعة الثامنة صباحا حيث كان في استقبالنا مصطفى أبو العلا، والذي أخذنا في سيارته الأمريكية (بويك) إلى فندق سميراميس. كانت هنالك بعض المشاكل المتعلقة بتذكرتينا، غير أن مصطفى، وبالتعاون مع ضابط شرطة بالغ الأناقة، قام بتسوية الأمر في لحظات. وأخذنا إلى جناح في ذلك الفندق الفخم يطل على النيل. وبعد الاستحمام جلسنا في الشرفة نحتسي القهوة. وقابلنا في تلك الشرفة واحدا من أغرب الشخصيات السودانية التي صادفناها في سنواتنا بالسودان، اسمه مطر (المقصود هو الأستاذ أحمد حسن مطر، 1904 ? 1985م. المترجم): رجل منغولي الشكل، يرتدي سترة (بدلة) سوداء مخططة باللون الأبيض، وقميص سترة أنيق، وربطة عنق وجوارب، وقدم لنا نفسه على أنه صحفي في المكسيك، والتي لجأ إليها بعد نفيه من السودان بسبب نشاطه السياسي. كان مطر يجسد بالنسبة لي غرور الرجل الصغير الذي لا يكف عن تضخيم ما قام به من أدوار في الحياة، وعن المبالغة في تقريظ نفسه، والافراط في إظهار أهميته وصداقته لذوي الشأن والحيثية من قادة مصر. ويبدو لي أنه من الذين يتلقون معاشا من مصر (تميل الكتابة في سائر أجزاء الكتاب للنقد الشخصي غير المؤسس، ولإطلاق الأحكام الجزافية دون تثبت. المترجم).
وبعد قضاء الصباح في المتحف تناولنا طعام الغداء في مطعم كورسال، ثم أخذنا قسطا من الراحة توجهنا بعدها لمنطقة الأهرامات لتناول الشاي في مينا هاوس. وبعد ذلك تناولنا طعام عشاء ممتاز في سانت جيمس، حيث يستطيع المرء تناول طعامه بينما يشاهد فيلما سينمائيا، وكان ذلك بدعوة كريمة ? كما هي العادة – من مصطفى أبو العلا. وفي ذلك العشاء قابلنا إبراهيم جبريل والذي كان في بحبوحة من العيش والترف في القاهرة، لا ريب على حساب الحكومة المصرية. ويجب أن أعترف هنا بشعوري بالغثيان عندما أتذكر الحالة البائسة التي ترك فيها الرجل عائلته في الخرطوم (هنا أيضا تطلق أحكاما ليس من دليل على صحتها، خاصة ضد الاتحاديين والختمية، إذ يبدو أن عواطفها كانت مع الطائفة التي تقف في الجانب الآخر من الغدير. المترجم)
13 مايو
قضينا صباح ذلك اليوم في البحث عن المتحف الإسلامي في القاهرة. وبعد جهد جهيد عثرنا على ما سميته “سندريلا المتاحف”. وسعدنا جدا بمشاهدة ما فيه من كنوز ونفائس وغرف سرية.
وتناولنا طعام الغداء في قاردن سيتي في شقة سيدة ذكية جميلة هي فوزية مصطفى أبو العلا، وهي شقة بالغة الفخامة والبهاء. وكانت فوزية سعيدة بالاختلاط بأناس في سن الشباب. واتفقنا على اللقاء في ذات اليوم للذهاب لفندق قصر هيوبلوس. ثم شاهدنا قصر الأميرة ناريمان وأماكن أخرى. وعدنا لفندقنا استعدادا للعشاء مع مصطفى أبو العلا في سانت جيمس. وبعد العشاء ذهبنا للسهر في أوبريج الهرم. وكانت سهرة حلوة جدا في أوساط الطبقة المصرية البالغة الثراء والواسعة الشهرة. وكان هنالك بالقرب من طاولتنا الياس باشا، وهو من بطانة الملك فاروق، وكان في تلك الليلة يحتفل بإطلاق السلطات لسراحه من السجن بداعي المرض! وكان الباشا يقذف بمئات الجنيهات يمنة ويسرى، خاصة عند نزول الراقصة الشرقية سامي جبال (لعل الكاتبة تقصد سامية جمال. المترجم).
شكرا استاذ بدالدين .جهد مقدر. ونطمع في المزيد.